روع العالم الإسلامي والعالم العربي –بل كثير من الأقطار- باغتيال الرجل، الرجل بمعنى الكلمة، النقراشي (1) الشهيد (2) غفر الله له وألحقه بالصديقين والشهداء والصالحين.
وقد سبقت ذلك أحداث، قدم بعضها للقضاء وقال فيها كلمته، وما أنا الآن بصدد نقد الأحكام، ولكني كنت اقرأ كما يقرأ غيري الكلام في الجرائم السياسية، وأتسائل: أنحن في بلد فيه مسلمون ؟
وقد رأيت أن واجباَ علي أن أُبيّن هذا الأمر من الوجهة الإسلامية الصحيحة، حتى لا يكون هناك عذرٌ لمُعتذِر ، ولعل الله يهدي بعض هؤلاء الخوارج المُجرمين ؛ فيرجعوا إلى دينهم قبل أن لا يكون سبيلٌ إلى الرجوع.
وما ندري من بعد النُّقراشي في قائمة هؤلاء الناس (2) إن الله توعّد أشد الوعيد على قتل النفس الحرام في غير آيةٍ من كتابه: ((ومن يقتل مؤمنا متعمّدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذابا عظيما)) ]سورة النساء:93[ ،وهذا من بديهيات الإسلام، التي يعرفها الجاهل قبل العالم، وإنما هذا في القتل العمد الذي يكون بين الناس في الحوادث والسرقات وغيرها، القاتل يُقتل وهو يعلم أنه يرتكب وزراَ كبيراَ.
أما القاتل السياسي يقتل الذي قرأنا جادلاَ طويلاَ حوله، فذلك شأنه أعظم، وذلك شيء آخر.
القاتل السياسي يقتل مُطمئنّ النفس، راضي القلب، يعتقد أنه يفعل خيرا، فإنه يعتقد –بما بُثّ فيه من مغالطات- أنه يفعل عملاَ حلالاَ جائزا، إن لم يعتقد أنه يقوم بواجب إسلامي قصر فيه غيره، فهذا مرتد خارج عن الإسلام، يجب أن يعامل معاملة المرتدّين، وأن تُطبّق عليه أحكامهم في الشرائع والقانون.
هم الخوارج كالخوارج القدماء الذين كانوا يقتلون أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ويدعون من اعترف على نفسه بالكفر.
وكان ظاهرهم كظاهر هؤلاء الخوارج بل خيراَ منه، وقد وصفهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالوحي قبل أن يراهم؛ فقال لأصحابه: "يحقِرُ أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"(3) .
وقال أيضا: "سيخرج في آخر هذا الزمان قوم أحداث السنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراَ لمن قتلهم عند الله يوم القيامة" (4) .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة متواترة وبديهيات الإسلام تقطع بأنّ من استحل الدم الحرام فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، والقاتل يعفو تالله عنه بفضله، وقد يجعل القصاص منه كفّارة لذنبه بفضله ورحمته، وأما القاتل السياسي فهو مُصِرٌّ على ما فعله إلى آخر لحظة من حياته، يفخر به، ويظنّ أنه فَعل الأبطال!
وهناك حديث آخر نصّ في القتل السياسي لا يحتمل تأويلاَ، فقد كان بين الزبير بن العوام وبين علي بن أبي طالب ما كان من الخصومة السياسية التي انتهت بوقعة الجمل، فجاء رجل إلى الزبير بن العوام فقال: أقتُل لك عليًّا ؟
قال: لا، وكيف تقتله ومعه الجنود؟
قال: ألحق به، فأفتِكُ به.
قال: لا، إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الإيمان قيد الفَتْك، لا يُفتك مؤمن" (5) ، أي أن الإيمان يُقيِّد المؤمن عن أن يتردى في هوة الردّة، فإن فَعَل لم يكن مؤمنا.
أما النّقراشي فقد أكرمه الله بالشهادة، له فضل الشهداء عند الله وكرامتهم (6) ، وقد مات ميتة كان يتمناها كثير من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، تمناها عمر بن الخطاب حتى نالها فكان له عند الله المقام العظيم والدرجات العُلى.
وإنما الإثم والخزي والعار على هؤلاء الخوارج القتلة مُستحلّي الدماء، وعلى من يدافع عنهم، ويريد أن تتردى بلادنا في الهوة التي تردّت فيها أوربة بإباحة القتل السياسي، أو تخفيف عقوبته؛ فإنهم لا يعلمون ما يفعلون، ولا أريد أن أتّهم بأنهم يعرفون ويريدون. اهـ
]جريدة الأساس 2 / 1 / 1949م[ .
(1) هو محمود فهمي النّقراشي باشا، رئيس وزراء مصر السابق، كانت له جهود مشكورة لخدمة بلده مصر وبلاد المسلمين، وكان سبب اغتياله أنه أمر بحلّ جماعة الإخوان المسلمين في يوم 8 / 12/ 1947م ؛ فاغتالوه بعد ذلك القرار بعشرين يوماً؛ وكان القاتل مُتخفّيا بزي أحد ضباط الشرطة، فألقى عليه التحية، فلما همّ النقراشي دخول المصعد أفرغ 3 رصاصات في ظهره .. والله المستعان
(2) الصحيح أن يُقال: (شهيد إن شاء الله) أو (نرجو أن شكون شهيدا)؛ فقد بوّب البخاري -رحمه الله- في كتاب (الجهاد والسير) : "بابٌ لا يقال فلان شهيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الله أعلم بمن يجاهد في سبيله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله))".
(3) قال الأخ محمد عوض عبدالغني المصري –حفظه الله- المهتم بتراث علماء أنصار السنة المحمدية- مُعلّقاً : (يقصد الشيخ في تكفير الحكّام وسفكِ الدماء، وهذا المقال من الشيخ –رحمه الله- صفعةَ قوية لمن يكفّرون الحكام ويزعمون أن الشيخ كان يكفرهم فهذا النُّقراشي –رئيس مصر والحاكم الفعلي لها- يترحم عليه ويدعو له، فماذا أنتم قائلون؟..) ]لمحات عن دعوة الإخوان المسلمين صـ19[ .
(4) صحيح مسلم (1/292،293).
(5) رواه أبو داود (1/631).
(6) قال العلامة أحمد شاكر: "حديث الزبير بن العوام (ح1429) من مسند الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله- بتحقيقنا". اهـ، قلتُ: لم يذكر –رحمه الله- درجة الحديث، وقد أخرج أبو داود في سننه وصححه الإمام الألباني (ح2769).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق