لم يكن اليوم العاشر من شهر محرم معروفا بمزية تفضله على غيره من أيام على عهد موسى –صلى الله عليه وسلم- على ما يشير إليه القرآن الكريم، حتى إذا كان اليوم الذي هاجر فيه بني إسرائيل من مصر تخلصا من تعبيد فرعون واضطهاده لهم، ظهرت مزية ذلك اليوم وأنه موضع نعمة كبرى ذكرهم الله بها في التنيل إذ قال: ((يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم)) الآية ، فصامه بنو إسرائيل من ذلك الحين شكرا لله على انجائه إياهم من عدوهم باغراقه فرعون وجنوده.
وقد اعتدى فرعون على أعلى مقام موجود فوق تكذيبه رسوله بعد وضوح الآيات التي تدل على نبوته، فقال لرعيته ((أنا ربكم الأعلى)) وهي الكلمة الأولى التي لم يسبقه بها مخلوق (1) ثم الكلمة الآخرة بعد بعث موسى وهارون له وهي قوله: ((ما علمت لكم من إله غيري))، فلما جمع لنفسه الربوبية الخاصة بالله والألوهية استحق أن ينكل الله به عقوبة له على الكلمتين، فقال –عز وجل-: ((فأخذه نكالة الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى)) صح ذلك التفسير عن النبي –صلى الله عليه وسلم- واتفقت عليه كلمة السلف.
فلما كان المحرم سنة اثنتين من الهجرة وصل إلى علم النبي –صلى الله عليه وسلم- أن بني إسرائيل يصومون العاشر من المحرم فقال: " أنا أحق بموسى منكم " فصامه وأمر الناس بصيامه، وأخبرهم بأن الله فرض عليهم صيامه.
والسر في ذلك أن النعمة التي تصيب أحد الرسل تكون نعمة على جميعهم من حيث أنها نصر للحق على الباطل واعتزازا لكلمة الله على غيرها، وقد شارك نبينا –صلى الله عليه وسلم- في تلك النعمة، فكان في هجرته إلى المدينة تصر للحق على الباطل واعزاز لكلمة الله على غيرها كما قال تعالى: ((إلا تنصوره فقد نصره الله إذا أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين اذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السلفى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم)).
فلما وقع له بالهجرة الانجاء الذي وقع لموسى ورأى أنه شريكه في كل ما وقع له من النصر والانجاء من العدو، وأنهما قد اتحدا في النعمة التي من أجلها صام موسى يوم عاشوراء صامه –صلى الله عليه وسلم- وأمر الناس بصيامه.
غير أن فرض الصيام هذا اليوم على هذه الأمة كان سنة واحدة، ثم فرض رمضان بعد ذلك في السنة نفسها، فلما كان المحرم من السنة الثالثة من الهجرة وصاموا يوم عاشوراء على نسق العام الماضي، أخبرهم –صلى الله عليه وسلم- في ذلك اليوم برفع فريضته عنهم بفرض رمضان، ورغبهم في صيامه تطوعا بإظهار ثوابه بقوله لهم: "صيام يوم عاشوراء احتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده".
وظل الحال على انفراد يوم عاشوراء بالصيام حتى أوحى الله إلى رسوله وجوب مخالفة أهل الكتاب وأن ذلك أصل من أصول الإسلام، وكان ذلك بعد عودته من حجة الوداع في محرم سنة احدى عشرة من الهجرة، فقال لهم: "خالفوا أهل الكتاب صوموا التاسع مع العاشر، ولئن عشت إلى القابلة لأصومن التاسع" أي مع العاشر لتحقيق المخالفة، فصار صيام اليومين بعد ذلك من سن الإسلام المؤكدة.
دل ما تقدم من مشاركة الرسول وأمته لموسى وبني إسرائيل في شكر الله تعالى بصيام يوم عاشوراء على أن المسلمين ملزمون بالاقتداء يجميع الرسل فيما حكى الله عنهم من الخير ومحاسن الأخلاق والأعمال التي تقربهعم إلى الله مما تقرب به مَن قبلنا من الرسل ((أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)).
ومن هنا نعلم السر فيما قصد الله علينا من سير الأولين، وأن كل ما يؤدي إلى سعادة البشر في الدنيا والآخرة وإن اختص تشريعه بقوم ال يختص عمله بهم بل يشاركوهم فيه جميع الخلق ما دام المقصود التقرب إلى الله تعالى، على أنه لا يصح في فضل يوم عاشوراء شيء غير ما تقجم من الحوادث التاريخية إلا ما رواه النسائي ع ابن عباس رضي الله عنه بإسناد حسن أنه اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح على الجودي، أنا نسبة حوادث أخرى في ذلك اليوم بعض الرسل كمعافاة أيوب من البلاء وانجاء إبراهيم الخليل من نار نمرود؛ وخروج يونس من بطن الحوت، وغير ذلك مما احتوى عليه الدعاء المشهور بمسلسل عاشوراء فلا يرتقي عن درجة الأساطير الخيالية. (2)
-----------------------------------------------------------------------------
(1) الصحيح أن النمرود بن كنعان ملك بابل قد سبق فرعون بدعوى الربوبية، والدليل قوله تعالى: ((ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذا قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت..)) الآية، قال ابن كثير: وقوله تعالى: ((حاج إبراهيم في ربه)) أي وجود ربه، وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره. اهـ.
(2) مجلة الهدي النبوي / العدد الأول لعام 1362 هـ / صـ 25-26
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق