السبت، 30 أغسطس 2014

مقال: قلم التسجيل (وفيه كشف صوفيات حسن البنا)

جاءت هذه المقالة في مجلة الهدي النبوي /العدد (7) / لعام 1365هـ  بلا اسم، وتكون هذه المقالات –فيما أظن- لرئيس التحرير أو مدير المجلة، وقد كان رئيس التحرير حينها سماحة الشيخ العلامة محمد حامد الفقي، ومدير المجلة سماحة الشيخ محمد صادق عرنوس –رحمهما الله تعالى-.

وقد جاء في المقال:

 

اعتاد فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين أن يطالع قراء صحيفة (الإخوان) صباح كل جمعة بحديثٍ افتتاحي في الدين وما يدعو إليه من أخلاق فاضلة، مما يجعله بمثابةِ تلطيفٍ لحرارة الجو السياسي الخنِق.

و الحديث –ولاشك- فيه خيرٌ كثير لولا ما يدُسُّهُ فضيلته في ثناياه من رقائِق تُطبعه بالطابع (الصوفي) الخيالي الذي يستعين به دائما في تليين القلوب وجذبها إلى حظيرة الهداية كما فعل في حديث الجمعة الأخير الذي عنون له بـ (قلــم التسجيــل).

 

فقد ساق له من الشواهد القرآنية ما فيه قرّة عين المؤمن، وسكينةَ قلبه، وطمأنينة نفسه، بِغضِّ النّظر عن الموضع الذي وضع فيه الآية الكريمة: ((في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة)) حيث أقحمها في غير ما نزلت لأجله؛ فقد أراد بها الكتب التي يُدوَّن فيها الوحي، ولذلك قال بعد هذا: ((بأيدي سفرة كرام بررة)) وأراد بذلك: ضمان حفظها من التغيير والتبديل، فلا تَحْمِلها إلا الأيدي الأمينة الطاهرة إلى رسلٍ أُمناء اطهار، يُبلّغونها الانس كما جاءت عن ربهم، كما قال في الآية الأخرى: ((إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسّه إلا المطهرون)).

 

فكُتُب الوحي توصف بالطُهر والرّفعة والكرم دائماً، فهي أوصافٌ لا تُزايلها أبداً، أما كُتُبِ الأعمالِ ففيها ما هو في علّيين وفيها ما هو في سجّين، فليست دائماً: ((في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة)) حتى تَصْلُح الآيةُ شاهداً لما قصده فضيلة المرشد؛ ولنغضّ الطّرف من ذلك ونقول: لعلّه لم يتعمّده.

 

ونحن في الواقع ما سقنا ذلك إلا استطرادا لم يكن مقصوداً، أما المقصودُ بالذات من كلمتنا هذه فهو مِثل ما جاء في حديثه الأخير:

ولعلّ من لطائف صور هذا التسجيل ما ورد في الحديث: (أن رجلا قال في بعض أدعيته ومناجاته: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فعضَلت بالملَكَين فلم يدريا كيف يكتُبان ثوابها، فقال الحق تبارك وتعالى: اكتبها كما قال عبدي، فإذا لَقِيني جزيتُه بما قال)".

 

وليسمح لنا الأستاذ الكبير أن نقول له:

إن معنى هذا الحديث يحكُم بوضعه أو ضعفه على الأقل ضَعفاً تَستبعِد معه نِسبته إلى الرسول –صلى الله عليه وسلم- إذ أنّ معناه يُخالفُ المقطوع به من الكتاب والسنّة: من أن وظيفة الملائكة قاصرةٌ على الاحصاء والتدوين، فلا تتعدى إلى تقدير الأعمال ووضع درجاتها، فهم شهود على العبد يُسجّلون أعماله ثم يؤدّونها إلى الذي ((يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور) والذي يزِنها بالنّية وإخلاص القلب، فيضع لها من الدرجات ما هي جديرةٌ به.

وقد تتشابه صورُ الأعمال فتُسجّلها الملائكة كما صدَرَت، فيرفَعُ اللهُ بها قوماَ، ويخفض بها آخرين، ومقياس ذلك بيده وحده لا شريك فيه حتى الملائكة.

 

هذا من حيث معنى الحديث أمّا سنده فلْيَدُلّنا عليه! نكن له من الشاكرين؛ على شرطِ أن يعافينا من الإحالة على (إحياء) -من يُسمّونه- حُجّة الإسلام، ومن يُسمّيه المُحقّقون (الحجّة على الإسلام) الذي ذكر الحافظ العراقي على شواهده من السّنة، فلم يدعْ أديماَ صحيحا.

 

 والذي يرجع إليه السبب الأكبر في طبع الأستاذ بهذا الطابع الصوفي، الذي طالما جرّهُ إلى مثل هذه المواقف التي ما كُنّا نحب أن يتورّط فيها، وقد كان يكفيه ما ساقه من الشواهد القرآنية، وله من صحيح السّنة ما يعضده هذه الشواهد لو كانت بحاجة إلى عضد، ولكنه أبى إلا أن يكون مَثَلُه كمثل رجلٍ بنى بيتاً بالأسمنت المُسلّح، ثم جعل أعمدتَه من لبنٍ وطين، فلا يلبث بأقلّ ثقلٍ أن ينهار من أساسه !!

 

ثم انظر أيها القارئ كيف ظهرت على فضيلة المرشد أعراض التصوّف، وأوضح ظهور عندما تجرّد من ماديته ولع من الروحانية المبلغ الذي يقول فيه:

"بل إن بعضهم فرض هذه الرّقابة على خطرات نفسه، كما أحكمها مع جوارحه وحِسّه، وكان يُردد وهو يعني ما يقول:

ولو خطرت لي في سواك إرادة

على خاطري يوماً حكمتُ بردّتي "

 

فأنشدك أيها القارئ العزيز:

هل كان يصلح لفضيلة المرشد العام الذي يصغي لرشاده ودروسه آلاف المريدين أن يجعل قول معتوهٍ من ضُلّال الباطنية شاهدا في حديث ملأه بآي الذكر الحكيم ؟!

فإذا كان هذا القائل يعني ما يقول فيسد منافذ قلبه حتى لا يدخلها غير ما يريد من الخواطر والخلجات فرسول اله –صلى الله عليه وسلم- أفهم لما يقول عنه في رواية صحيح البخاري عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أنه قال: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خَلَق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فلْيستعذ بالله ولينته".

 

هذا هو القول الوارد عن المعصوم  الذي يعبّر عن الفطرة الإنسانية كما خلقها الله فيُشخّص داءها ثم يصرف دواءها، ولا يخرجها عن دائرة ضعفها وأصل تصميمها كما أخرج شاعر الأستاذ نفسه منه1ه الدائرة فكان من الكاذبين؛ كيف والله يقول في المؤمنين من الصحابة: ((ويظنون بالله الظنونا)) وما طعن ذلك في إيمانهم ولا قصد؛ ونعوذ بالله من تنكُّب الجادّة.

 

ولعلم الله –عز وجل- بما ركب في فكر عباده من الضعف وأن خَطَراتَ النفس لا يمكن ان ينجو منها إنسان، قال رسوله –صلى الله عليه وسلم- في الحديث الوارد في صحيحي البخاري ومسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست أو حدّثت به أنفسها مالم تعمل به أو تكلّم" فإذا لم تكن الوسوسة جبليّة في الإنسان وأنه مهما أقام عليها من سدود (حُلولية) وجسور (صوفية) لا يمكن أن يقاوم تيارها لما ذكرها الرسول وأبان طريقَ الخلاصِ من شرّها، وما أمر اللهُ إياه بالاستعاذة من الوسواس الخنّاس ببعيد عمّا نحن بسبيله.

الخميس، 28 أغسطس 2014

الليبرالية .. الإلحاد بثوبه الجديد 1⃣

الحمدلله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فإن من أفسد طوائف المسلمين وأقبحهم مقالا : عشاق الغرب، المتبعين سَنن اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة، حتى لو تراموا في الجحيم لتبعوهم إليها.

[التخلف الليبرالي]

تجد الواحد منهم بعد أن رحل لتلك البلاد من أجل الدراسة، يُعجب بتقدمهم العلمي، وازدهارهم الحضاري، وتقديسهم للمادة، وكل ما يقوّم الحياة...من أجل البقاء في الحياة...للحياة!

فيتلقف هذا المسكين منهم كل ساقطة ولاقطة، فيتطبع بعاداتهم القبيحة، وأعرافهم الذميمة، ويقلدهم في حركته وسكونه، وكلامه ومنطقه، وخُلقه وخَلقه؛ حتى ينسلخ من دينه و هويته العربية، ماشياً في تلك البلدان متستراً بلباسهم؛يمضي مع الركب كالدابة الملجومة، يجُرّونه بحبال الغواية كالكبش، ليفتِنوه بما أبدعوا وبرعوا في عمارة الدنيا بشتى المجالات الصناعية والاقتصادية والزراعية و..الخ

فيبتهر هذا المفتون بما عند القوم من اهتمام للدنيا وزينتها، فتحلو له الحياة، حتى يتمنى أن لو يخلد فيها، ويعيش بين ظهراني عباد الصليب والكهان إلى آخر أنفاسه...فتتغير نظرته لحياته (المتخلفة!) السابقة، ليحتقر وطنه وقومه وأصله وفصله بل ربما تعدى الأمر إلى دينه ! 

وتافههم...وأرداهم...وأخزاهم :
من يستحي إظهار شعائر الإسلام في نفسه، خشية تقيده بالتزام آدابه، والعمل بمقتضيات أحكامه، فإذا ما سُئل عن موطنه ودينه، اعترف على استحياء !

أما النساء -وما أدراك ما واقع النساء-تجد لسان حال المتحجبة منهن يقول:
لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما لبست الحجاب !!
فتراهن يلبسن الضيق، والأحمر والأصفر الفاقع، ويبالغن في وضع الزينة والعطورات حتى تتغير ملامحها...وهذا ما لا يفعله نساء الغرب أصلا (!)

وآخر الموضات...والفوضات...التي ظهرن بها : لبس القبعة بدلا من الحجاب الذي يسترهن

قبعة شبيهة بعمامة الهندوس والسيخ عبدة النار والأوثان، والجرذان ... لا ستر فيها ولا جمال !!

وما أحسبهن فعلن ذلك إلا خجلا من ثياب التقوى التي كساهن الله تعالى بها...ولا تَسَل عمن فارقنَ الحجاب...ولا حول ولا قوة الا بالله 

[هذا وعد إبليس]

ولا يدري هؤلاء المفتونين...أنهم قد وقعوا في شَرَك إبليس ! الذي أقسم على رب العزة: {قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين}.

{قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم ، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين}

وقد جيشهم عدو الله إبليس...
فغسل عقولهم بوحل الشبهات والشهوات...
حتى إذا أشبعها رِجساً...
ألبسهم لباس الإسلام، وأرسلهم من بلاد الكفر غُزاةً إلى بلاد المسلمين، ليحاربوا دينهم -الذي كانوا يعتنقون-، وها نحن نرى الليبرال يضربون حصون الإسلام بكل ما أوتوا من قوة، ويسعون في أرض المسلمين فسادا كالتتر...

فتراهم ينادون إلى الديمقراطية والحرية، والدعوة إلى تقديس: (الرأي والرأي الآخر) ، فإذا ما خالفهم أهل العلم والدين ورثة الأنبياء...
سقط القناع !!!
وثاروا كالثيران!
وانتفخت أوداجهم !
واحمرت وجوههم !
وسال لعابهم !
ونسوا أنهم أرباب (الرأي والرأي الآخر)
واسمع ما شئت من السباب والشتائم والفجور النابع عن الحقد الدفين على الإسلام والمسلمين.

يريدون أن يشغلوا العباد عن عبادة رب العباد، بعبث الدنيا وشهواتها، وإضاعة الأوقات والأعمار بترميم الدساتير الوضعية، والقوانين الطاغوتية، القائمة على زبالات الأفكار البشرية، التي قننها لهم زعيمهم الأكبر..وإمامهم الأعظم..وإلههم الأوحد :
إبليس ! 

ولكن هيهات ... !

[حراس الدين بالمرصاد]

 فالله عز وجل قد نصب في أرضه حرساً شِداداً ... وأسوداً أفذاذا ... يحمون حوزة الإسلام من كيد الأعداء؛ وهم : العلماء ورثة الأنبياء...فلازالوا يدفعون عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين، ويدكون خصومهم بالحجج والبراهين، ويزلزلون عروشهم بالأدلة القاطعة والسلطان المبين.

{يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون}.


فهذه توطأة للحديث عن هذه الفئة العليلة، وللحديث تتمة في مقالات قادمة -إن شاء الله تعالى-

كتبه/ أبو عمر عبدالله الهزاع
الخميس ٢/ذو القعدة/١٤٣٥ هـ

الخميس، 21 أغسطس 2014

العلامة عبدالرحمن الوكيل يبهت أحد دراويش الصوفية عند الوثن الزينبي

قال العلامة / عبدالرحن الوكيل -رحمه الله- في كتابه (هذه هي الصوفية) مخاطبا شيخ الطرق الصوفية:

(ولقد ناقشت أحد أتباعكم (الغلابة)، فاعترف بالفصوص (1) ، وأنها حق جليل، وبالطبقات، وأنها سجل كرامات مقدسة، فجئت بالمسكين صوب المذياع وكنت أحاضر في مكان كريم، يصخب عليه "الدراويش" في عيد وثني يحتفل فيه الصوفية بمولد الوثن الزينبي –وبرأ الله زينب رضي الله عنها من بهتان الصوفية- .

ورجوت الدرويش الثائر أن يتلو على الحشود من كرامات الصوفية المسجلة في طبقات الشعراني، فما إن قرأ كرامة سيده "علي وحيش"، ورأى الجريمة الباغية، حتى ضرب الأرضَ بالكتاب صارخاً مرتاعاً: هذا مدسوس ! (2)

فقلت للمسكين المفجوع في معبوده! : حنانيك، وهل يمكن أن يكفر الصوفية بهذا الكتاب؟! ، أو يعترفون بأنه مدسوس؟!

فأجاب الدرويش –والحقد في عينيه جمرات تتوهج، وفي بدنه رعدة غضبى- : إن من يدين بهذا، فهو كافر! ومن لا يعترف بأنه مدسوس، فهو كافر!

 ثم فر مذعورالرياء ! وهكذا يا سماحة الشيخ، كلما خشى صوفيٌ افتضاحَ معبودٍ له، قال: مدسوس! حتى إذا خلا إلى شيطانه، قال: ينفذ الشيخ ما اطلع عليه من قدر الله المغيب! فعله طاعة، لا معصية!.

وليس هذا شأن الصغار منكم، بل هو أيضا شأن أحباركم الكبار. فقد زعم لي مثل ذلك الزعم شيخ التيجانية في مصر حين صدمته ببهتان ابن عربي أمام دراويشه، وأمام أناس يحرص على أن يوقروه، ويعظموه!.

ولقد قلت لذلك الصوفي الصغير، كما قلته من بعد لشيخه الكبير: سل الصوفية، وشيخهم الأكبر، أن يَكْفروا بتلك الكتب، فإن فعلوا. كان الخير الذي تظمأ النفس إلى معينه، وكفى الله المؤمنين القتال!.

فهل تستطيع يا سماحة الشيخ أن تصنع باسم الله شيئاًن كهذا؟ أيمكن أن تصدر بياناً تعترف فيه بالحق غير هياب، ولا وجل، فتقول –مثلاً– فيه : "لما في الفصوص والطبقات و...، ...من مخالفة صريحة لدين الحق، فإنا نأمر أتباعنا، أن يكفروا بتلك الكتب؟!" 

أم يمكن –مثلا آخر– أن تقول: "إن كتاب الفصوص، أو الطبقات، أو ... أو ... مدسوس على من نُسب إليه، لأن فيه، وفيما هو مثله كفراً!"؟ 

ليتك يا سماحة الشيخ تقدمها إلى الله صالحة!) . (3)

------------------
(1) كتب الفصوص لابن عربي، أحد طواغيت الصوفية.
(2) قال الشيخ الوكيل في الحاشية: (يقص الشعراني في طبقاته كرامات سيده على وحيش معقباً على ذكر كل كرامة يقوله: رضي الله عنه: "كان الشيخ رضي الله عنه يقيم عندنا في خان بنات الخطا!! وكان كل من خرج "أي بعد اقتراف الجريمة الباغية" يقول له: قف، حتى أشفع فيك، قبل أن يخرج، فيشفع فيه!! وكان إذا رأى شيخ بلد، أو غيره، ينزله من على الحمارة، ويقول له: أمسك لى رأسها حتى أفعل فيها، فإن أبى شيخ البلد تسمر في الأرض لا يستطيع يمشي خطوة، وإن سمح حصل له خجل عظيم والناس يمرون عليه" ص 135 جـ 2 الطبقات ط صبيح. جريمةُ فسقٍ مُنكَرة، تروى بألفاظ فاسقة وأسلوب فاسق، وإذا أبى صاحب الدابة إلا صيانة غرضها من وحيش عطبه وحيش!! ومع هذا يقول الشعراني عن وحيش: "رضي الله عنه"!!).
(3) هذه هي الصوفية صـ68-69 .

الثلاثاء، 19 أغسطس 2014

أخلاق أم فوضى ؟! للعلامة محمد خليل هراس (ردا على خالد محمد خالد)

هل قرأت كتاب الشيخ خالد محمد خالد (2) الجديد (هذا أو الطوفان)؟ وهل أتاك نبأ هذه الأخلاق الجديدة التي يبشّر بها في هذا الكتاب ويدعو إليها في حرارةٍ وإيمان، معتقداً أنّها المنقذ الوحيد لهذه الأمة من الطوفان؟ وهل سمعت عن (أبيقور) و (أرستب) وغيرهما من فلاسفة اللذَّة القدماء؟ وهل تعلم أن الشيخ خالد يسعى جهده في هذا الكتاب لإحياء تلك المذاهب القديمة التي لا تقيم وزناً لدينٍ ولا لفضيلةٍ ولا تعرف إلا اللذة ولا شيء غير اللذَّة؟

إن كُنتَ لا تعرف شيئاً من ذلك أيها القارئ فأنا أدلُّكَ على الكنزِ الثمين الذي تعثر فيه على هذه الفلسفة الأخلاقية الرائعة، إنّه كتاب الشيخ خالد الجديد. نعم: ومن أقدر من الشيخ خالد على كتابة هذه الحماقات؟ ومن أجرأ من خالد على نفث هذه السُّموم التي لا تَذَر من شيءٍ أتت عليه من معنوياتِ هذه الأُمّة وفضائلِ دينها إلا جعلته كالرميم؟

 

ومِن العجيب أنْ ينشر هذا الكتاب ويطبع للمرة الثانية وتتداوله أيدي الألوف من شباب هذه الأُمّة دون أن نسمع صيحةَ إنكارٍ واحدةٍ تقول لهذا المؤلّف الذي يريدها فوضى ماحقة ودماراً سريعاً: على رِسْلِك أيها الداعي إلى شيء نُكُرْ، والمُشعل نارَ فتنةٍ لا تُبقي ولا تَذَرْ؛ وتقول للناس المخدوعين بهذا المؤلّف وأمثاله: احذروا هؤلاء  الذين يتجرون بأثمن مقومات حياتكم وأعزها عليكم، والذين يردونكم باسم (العلم والمدينة) إلى دركات البهيمية السافلة والشهوات القاتلة.

 

يزعم الشيخ خالد أنّه يتكلم في كتابه بلسان العلمِ القائم على التجارب الصحيحة والإحصاءات الدقيقة، ويزعم أن مسائلَ الأخلاق والسلوك مما يدخل في نطاق العلم التجريبي، مخالفاً بذلك أساطين علماء النفس والأخلاق، ومقلد الشرذمة من الماديين الذين يرحّبون كل ما يصدر عن الإنسان من أفكارٍ وإرادات وميول إلى وظائف فسيولوجيّة (3)، حتى أنّهم ليقولون: ( أنّ المخ غُدَّة لإفراز الفِكر، وأنّ الإنسانَ ليس إلا هذه المجموعة من الأعضاء، والغُدد والدم والأعصاب...الخ).

 

 ونحن لا ننكر العلم ولا نعاديه بل نؤمن بأنّ العلم اليقينيّ القائم على التجربة لا يمكن أن يتعارض مع الدّين، لأنّ الرُسُلَ –عليهم الصلاة والسلام- لم يجيئوا بما يتعارض مع نظام الكون وطبيعة الوجود، وإنما جاءوا بكل ما يُكمل الفطرةَ الإنسانية، وليس في الأديان ما يُجافي النواميس الكونية، أو يكابر الوجدان السليم، ولكنّا مع ذلك لن نُخضع الدِّين للعلم كما يريد الشيخ خالد، ولن نُسلِّم للعلم القِياد، بل سيظل الدين أبداً هو رائدنا إلى كل حقٍّ وخير، وستظل أعلامه المنصوبة على طول الطريق هي المُرشدةُ لنا في متاهات الحيرة والضلال، وسيظل سلطانه المقدس هو الحاكم في سلوكنا وأخلاقنا، لأنّه شيء قد اختلط بأرواحنا وقلوبنا، بل وبلحامنا ودمنا وأعصابنا، فهو لنا كالنور للعين والعافية للمريض، بل هو الحياة، ولا قيمة بعده للحياة.

 

والآن وقد تشوّقتَ أيها القارئ إلى معرفة ما احتواه هذا الكُتيّب مما بعد قحة واجتراء على الدين ودعوةٌ صريحة إلى الإباحية والإنطلاق، وكان من غير المستطاع في هذه العُجالة أن نضع يدك على كلما فيه من مآخذ وأخطاء فلا أقل من أن نمر بك في عرضٍ سريعٍ على أهمِّ النُّقط التي جاوز فيها المؤلف كل حدٍّ، وخرج على كلِّ مألوفٍ.

 

يبدأً الشيخ خالد الفصل الأول  من كتابه بهذا العنوان: (هنا لا هناك) ويكتب تحت هذا العنوان نقلاً عن بوذا (لستُ أعرفُ شيئاً عن سرِّ الإله، ولكن أعرفُ شيئاً عن بؤسِ الإنسان)، ولعلّ في وضع هذا النص تحت هذا العنوان ما يُفصحُ غايةَ الإفصاحِ عن الفلسفة الجديدة للشيخ خالد وهي: أنها فلسفة إنسانية أرضيّة لا تؤمن بالميتافيزقا (4) ولا بشيء من أمور الغيب، بل لا تؤمن إلا بالواقع المحسوس، وسيأتي  في خلال هذا الكتاب ما يزيد هذا المعنى بياناً.

 

إن الشيخ خالد يَعُدُّ كل ما تحدَّثّت عنه الأديان من شئون الغيب أساطير وخُرافاتٍ لا مجال لها في عصور النور والعلم، ولا بُدَّ أنْ تأخُذَ سبيلها يوماً إلى الانقراض كما انقرضت أنواع الحيوان المختلفة عن مُجاراةِ ركبِ الوجود. إن كل ما ليس بمحسوس هو في نظر الشيخ خالد غير موجود، فهو لا يؤمن بالشيطان ولا بالملائكة ولا بغير ذلك مما لم يقع تحت بصره، ولكنّه لا يؤمن بهذا الإنسان الذي يعرف من بؤسه وشقائه أشياء وأشياء.

 

ثم يتحدّث الشيخ خالد في هذا الفصل عن خمسِ نقاطٍ:

 الأولى بعنوان: (من الغابة إلى المدينة).

 والثانية بعنوان: (من المحراب إلأى التشريح).

والثالثة: (ليس هناك شياطين).

والرابعة: (التديُّن قد يكون انفعالاً مرَضيا).

والخامسة: (هذا هو الإنسان).

 

ولعل في هذه العناوين نفسها ما يكفي لبيان دخيلة الشيخ وما يهدف إليه من نبذِ الموروثات القديمة من الأديان والتقاليد والانتقال من محاريب العبادة إلى غرفِ التشريح، حيث يقوم العلماء هناك بالكشف عن ما يثير النَّفْسَ وحل ألغازها واستِنْكاه دخائِلها، وحيث يقومون بتشخيص أمراضها ورذائلها، ولكنّا مع ذلك لن نكتفي بالعناوين بل سنتابع الرحلة عبر هذا الكتاب، لنقفك أيها القارئ منه على العجب العُجاب.

 

ففي النقطة الأولى يبدأ الشيخ خالد رحلةً تاريخيةً ينتهي فيها إلى سُقراط العظيم، ذلك الرجل الذي أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، وجعل شِعارَ فلسفته: (إعرف نفسك بنفسك)، وبذلك استطاع أن ينقلنا من حياة الغابة الموحشة ويقف بنا على أبواب مدينة السعادة بعد أن فضَّ مغاليقها، ولكن يا ترى: هل سنظل هكذا على  باب هذا الفردوس البهيج، دون أن نحظى باقتحامه والتنعُّمِ فيه؟أنّ الطبيعة الرحيمة بالإنسانية وهبتها رجلا آخر ليس عظيماً فحسب، ولكنّه في نظر الشيخ خالد عظيمٌ جدّ عظيم، ذلك الرجل هو (أبيقور) فيلسوف اللذَّة  المشهور.

 

ولكن أتدري أيّها القارئ لماذا كان أبيقور في نظر الشيخ خالد عظيما جد عظيم؟ولماذا كان في نظره رائداً من روّاد الإنسانية العظام؟

 

لأنّه آمن بأنَّ الغاية الأخلاقية هي اللذّة والبعد عن الألم، وأنَّ هذه الغاية هي التي يجب أن نُصدِرُ عنها في كلِّ سلوكنا وأعمالنا، وأنَّه لا معنى للسعادة ألا نعيش في لذائذ موصولة لا يتخللها شيء من الآلام؛ ولمّا وَجد أبيقور أنَّ تحقيق هذه الغاية مستحيلٌ لأنَّ الناسَ يخافون الآلهةَ ويخافون الموتَ، وبذلك اقتحم أبيقور كما يقول الشيخ خالد: ( المدينة.. بعد أن تركنا سقراط على بابها، ولقد كنّا نذعر من دخولها، ونخاف فأزاحَ الرجلُ العظيم المخاوفَ من طريقنا، ودخل أمامنا مُلوِّحاً من بعيد بيدهِ البارّة أن ادخلوا، فهل دخلنا؟) (5)

 

هكذا يتحدَّث الشيخ خالد عن أبيقور اللَّذي المُلحِد، وهكذا يضفي عليه من ألوان العظمة والمجد ما يضمن بمعاشرهُ على رسولٍ من عند الله، ويتّخذ من فلسفته التي تقوم على هدمِ الأديان وإنكار الفضائل شعاراً له في الحياة.

وصلنا في المقال السابق مع الشيخ خالد في رحلته إلى أبيقور، ذلك الرائد العظيم الذي فتح للإنسانية باب المدينة السعيدة الفاضلة، وأخذ على حدِّ تعبير الشيخ خالد يلوح لهم من بعيد بيده البارَّة أن: ادخلوا.

 

ولكن الشيخ خالد يأسفُ أشدَّ الأسف لأنّ تعاليم أبيقور اللَّذِيَية الإلحادية لم يُكتب لها أن تتعمَّق في ضمير البشرية، ولم يكتب لتيارها الدافق أن يستمر في سيرِهِ، ولكنَّه أُصيب بجُرعةٍ وانتكاس بسبب (أن فتىً شاحبَ البَدَن مشرقَ النَّفْس قدِمَ إلى الدنيا في زيارةٍ قصيرة سريعة).

 

ولا تعجب أيها  القارئ إذا علمت أنَّ الشيخ خالداً يريد بهذا الفتى عيسى روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، ويُعبِّرُ عنه بهذا الكلمات التي تحمل معاني السُّخرية والإشفاق، ولم يرضَ حتى أن ينعته بما نُعت به من قِبَل أبيقور وسقراط، وليس ذلك فحسب، بل يحرص الشيخ خالد على أن يدلَّنا على مقدار الفرق الهائل بين وصايا أبيقور العاقلة الرشيدة وبين تعاليم الأنبياء الخيالية الحالمة فيقول:

(لقد وقف المسيح –عليه السلام- ينادي الناسَ قائلاً: "لا تُقاوِموا الشرَّ"، وبعد قليل سيجيء محمد –عليه السلام- ليقول: "تخلّقوا بأخلاق الله" وكلتا الدعوتين نبيلة وفاضلة، ولكن هل يستطاع تنفيذها؟ كيف يطالبُ منّا المسيح أن لا نُقاوِمَ الشرَّ؟ مع أنّ الإله نفسه يعجز عن ذلك بدليل فعله في قرى قوم لوط؛ وكيف يطلب منّا محمد أن نتخلّق بأخلاقِ اللهِ وهو يعلم أنّنا بشرٌ ولسنا ملائكة؟ أين هذه المِثاليَّة المتطرّفة التي دعى إليها هذان الرسولان من واقعيّة أبيقور الواعية الهادفة؟ أليست هي أولى وأحقّ بالاتباع؟). (6)

 

ثم يتصوّر الشيخ خالد أن العلمَ والدين عَقَدا فيما بينهما اتّفاقيةً على أن يعمل كلٌّ منهما في نطاقِ اختصاصِه، وظَفَرَ العلمُ في هذه الاتفاقية بنصيب الأسد، فهو الذي يضع المفاهيم الجديدة للأخلاق، والذي يشخّص الرذائل تشخيصاً مستمدّاً من طبيعة الإنسان، وهو الذي يعالجها بوسائلِهِ الخاصة، ولا بأس أن يستعين  العلمُ بالدين إذا رأى ذلك، ولكن الكلمة الأولى والأخيرة في كل ما يتعلّق بسلوكنا الأخلاقي هي للعلم وحده، أما الدين فلا ينبغي أن يتطلّع إلى شيءٍ من ذلك لأنّه يقوم في نظرِ الشيخ خالد على خرافتين:

الخرافة الأولى: هي أنّ أعمالنا التي تصدر منّا تابعة لمشيئة الله وقَدَرِهِ، وليست صادرة عن إرادتنا الحُرَّة.

الخرافة الثانية: هي وجود الشياطين التي توسوس لنا وتجتهد في إغوائنا.

 

هكذا يقول الشيخ خالد، فهو يُنكر صلاحيةَ الدينِ لأن يكون مصدراً للسلوكِ أو مُشْرِفاً على الأخلاقِ مادام يؤمن بأنَّ مشيئة الله عامةٌ تتناول أعمالَنا، ومادام يؤمن بوجودِ شياطين تؤزّنا وتنحرفُ بنا عن الغاية.

وهكذا يعدُّ الشيخُ خالد الإيمانَ بالقدرِ وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن خُرافةً من الخرافات التي أُقيمت عليها الأديان، ويدّعي أنّ ذلك يُنافي مسئوليةَ العبد عن أعمالِه مادام ليس حُرّاً،وليس في الإيمان بالقدر ما ينافي المسئولية الأخلاقية، كما قال المعتزلةُ قديماً وقلّدهم فيه الشيخ خالد، فإنّ القدرَ ليس إلا جملةَ الأسباب والمُسبِّبات التي ربط اللهُ بينها وجعل بعضها يؤدّي إلى بعضٍ، وجعل بعضها يدفع بعضاً.

 

فنحن ندفعُ الجوعَ بالأكلِ، والمرضَ بالدواءِ، ونحن نقطعُ بالسكينِ ونقتُلُ بالسيوفِ ونُحرق بالنارِ، والكلُّ مِن قَدَرِ اللهِ، وكذلك نحن نعملُ بإرادتِنا، وإرادتُنا ليست إلا حلقات في تلك السلسلةِ الطويلةِ التي هي القَدَر، فنحن نختارُ أعمالَنا ونعملُها بقُدرتِنا، ولا نكون في ذلك كلِّه خارجينَ عن قَدَر اللهِ، ولا نكون كذلك مجبورين على شيءٍ منها جبراً، من شأنه أن ينفي عنَّا المسئولية، ولذلك أضاف القرآنُ الفِعلَ للعبدِ وأَثْبَتَ للعبدِ مشيئةً في فعلِهِ كما قال تعالى: (فمَن شاءَ فليؤمِن ومن شاءَ فلْيَكفُر)، وقال: (لِمَن شاءَ منكم أن يستقيم).

 

فنحن نؤمن بالقدر ولكنّنا لا نحْتَجُّ به ولا نتَّخذَهُ ذَريعةً لإبطالِ المسئوليةِ وهدمِ التكاليفِ كما يُتوهَّم، وأما وجودُ الشيطانِ للإغواءِ والتزيينِ فهو شأنٌ من شئونِ الغيبِ، يجب أن نؤمنَ به وإن لم نرَه، كما نؤمن بوجودِ اللهِ وملائكتِهِ ونحن لم نرَ اللهَ ولا ملائكتَهُ، فليس كلُّ ما يجبُ الإيمانُ به يجبُ أن يكونَ مرئيّاً محسوساً، ولكن الشيخَ خالد العريق في الماديةِ الواقعيةِ بعد فكرة الشيطان خرافة من مخالفات القرون المنقرضة لا يجمل بالإنسانية المحتضرة أن تبقى عليها ويحمد الله أنها انقرضت من ثُلثي العالم المتحضر.

ثم يمعن الشيخ خالد في الإزراء بالدين فيقول أن التديّنَ مَظْهَرٌ كاذبٌ، وأنه كثيراً ما يكون نفاقاً خادِعاً، وأنّه عائقٌ بعِتاقِ السلوكِ، ويقِفُ نموُّهُ وتهذيبُه، وأنه غالباً ما ينشأ عن انفعالاتٍ مَرَضيّة، وأن الإنسانَ قد يصلِّي ويصومُ ويؤدِّي الواجبات الدينية وهو مشحونُ النَّفْسِ بالعُقَدِ المكبوتةِ، بل وهو مُجرَّدْ من كلِّ خُلُقٍ كريمٍ، ونحن لا ننفي أنَّ بعضَ الناس ممن لم تخالط بشاشةُ الإيمانِ قلوبَهم لا ينتفعون بما يقومونَ به من أعمالٍ صالحة، لأنها ليست صادرةٌ عن إرادةٍ خيِّرةٍ وإيمانٍ صحيح، فهي لا تُثمر ثمرتها المرجوَّة في تقويمِ الأخلاق، ولكنَّ ذلك ليس لنقصٍ في الدين نفسه، ولكنَّه انحرافٌ في هذه النفوسِ يجعلها غير قابلةٍ لتأثيرِ الدين.

 

وهل إذا كان الأعمى لا يبصرُ ضوءَ الشمسِ تكون شمسُ غيرَ طالعةٍ؟

 

وهل إذا كان المحمومُ يُشعِرُ بطعم الماءِ الزُلال مُرّاً في حلْقِهِ يكون ذلك في الواقع؟

 

لقد شهدت التجربة وسجل التاريخ أنه ليس كالدين وسيلة لتهذيب الأخلاق وتصحيح السلوك، فقد استطاع هذا الدين قبل أن يعرفَ الناسُ قواعدَ العلمِ، وقبل أن يولدَ الشيخُ خالد بمَثابةِ السنين أن يوجد جيلاً من الناسِ سيظلُّ مفْخَرَةَ البشريةِ ومعجزةَ الدَّهرِ في قوَّةِ أخلاقِهِ وسموِّ آدابِهِ، في حين عَجَزَ هذا العلمُ الذي افتُتِنَ به الشيخُ خالد في أنْ يوفِّرَ لهذه البشرية المألومة ماتنشده من راحة وطمأنينة، ولم يستطع كذلك أن يقوِّم هذه المجتمعات التي أخذت بأساليبِه وطبَّقت نظرياتَه، والشيخ خالد نفسه يعترف بذلك، فهو ينقل عن سيدةٍ أمريكيةٍ ما تُعانيهِ الولاياتُ المتحدة من فوضى جنسيَّةٍ مُبيدةٍ، وقف العلم حيالها عاجزاً مبهوراً.

 

وإن تعجّب فعجباً لهذا التناقض الذي يقع فيه هذا المؤلِّفُ، فبينما ينكر خضوع السلوك الإنساني لمشيئة الله لأنَّ ذلك يُفضي إلى الجّبْرِ ونفي المسئولية، يرى أنَّنا خاضعون في هذا السلوك إلى تركيبنا الجسمي، ويقول أن أجهزة الجسم لها على الأخلاق تأثيرٌ كبيرٌ، حتى أنَّ طول القامة وقصرها لمما يؤثّر في تفكيرنا وسلوكنا، وأنَّ العلماء ليَرَوْنَ في اكتشاف الغدّة الدِّرقية انقلاباً هائلاً في دنيا السلوكِ الإنسانيِّ، وبذلك يقعُ الشيخُ في حمأةِ الجبر وهو لا يشعر، إذ مادام السلوك نتيجةً حتميَّةً من البيئةِ والتربيةِ وأجهزةِ الجسم المختلفة: فلماذا لا يُلامُ الإنسان على خطئِه وانحرافه؟

 

ولكنّ الكاتب العبقري يريد أن يُحرِّرنا من الخضوعِ لإرادةِ الله، ليجعلنا خاضعين لهذه الغرائزَ والانفعالات المضطرمة بين جوانحنا، وهو يهدف من ذلك ةإلى نفيِ المسئولية عن المجرمين والسفّاكين، بل هو لا يرى نعتهم بهذه الألقاب فلَيسوا في نظرِه مجرمين ولا سفّاكين، ولكنهم مرضى، ومن حقِّهم علينا أن نرفق بهم، وأن لا نؤاخِذَ أحداً منهم بجُرمِهِ، أو نوقِعَ عليه ما يستحقُّه من جزاءٍ رادعٍ لقاءَ ما اقترف من إثمٍ أو خيانةٍ، بل الواجب أن نفتح لهم المصحّات النفسيّة لنعالجهم فيها.

 

وإذا فليفعل من شاء ما شاء بلا إثمٍ ولا حرج، ولنُلغِ قوانين الدولة كلّها ولتبطل شريعة الأرض والسماء، فقد اكتشف الشيخ خالد بلسم الشفاء.

 

نحن لا ننكر أن بعض مظاهر الانحراف في السلوكِ قد يكون نتيجةً لمرضٍ عضويٍّ أو لعُقدةٍ نفسيّةٍ مكبوتة، أو لسوء التربية والإهمال، ولكن جعل هذا قاعدةً عامة لتصرُّفاتِ الناس، وانتحال المعاذير للمجرمين، وتبرير خطاياهم، مِن شأنه أن يَفتح في الأمَّةِ بابَ فتنةٍ وفسادٍ كبير.

 

وأيّاً كان الدافع إلى الجريمة فهو لا يُسقطُ عن المجرمِ العِقابَ، حتى لا يتّخذ الجُرمَ عادةً، وتُصبحُ أمام حالاتٍ من الفوضى لا أوّلَ لها ولا آخر.

 

والسعادةُ عند الشيخ خالد ليست في التمسُّكِ بأهداب التقوى ولا في ممارسةِ هذه الفضائلَ التي تعارَفَ عليها الناسُ وأشادت بها الأديانُ ولكنها في الاستجابةِ لغرائزِ النَّفسِ والعملِ وفق طبيعتنا الحيّة، فإننا لم نُوهَب تلك الطبيعة إلا لتَسعد بها فاستعمالها على خيرِ الوجوهِ هو السعادةُ وهو الفضيلة، أما الفضائل التي تسبِّب ألماً وحرماناً فهي ليست جديرة بهذا الاسم فذلك العجز الذي كان يسمى ورعاً، وذلك الخنوع الذي كان يسمّى تواضعاً والانطواء الذي كان يسمى عفّة كل هاتيك الغرانيق العلي قد انقرضت وحلّت مكانها هذه الأخلاق الجديدة النابغة من طبيعة الإنسان.

 

هكذا يقول الشيخ خالد، ويقينيْ أنه لو كان أبيقور أو أرستب أو غيرهما من أصحاب مذاهب اللذَّة أحياء لما تحدَّثوا عن اللذة هذا الحديث الذي يجعلها فضيلةً، ويُعلِّق عليها كل سعادة قد يكون من الجائزِ أن يختارَ الشيخُ لنفسه ولِمُشايِعيه هذا المسلك في الحياة الذي يقوم على إرواء الغرائز وإشباعها، أمّا أنْ يدّعي أنّ هذا هو السلوك الأفضل ويتكلم عن الفضائل الحقيقة بهذا الأسلوب السّاخر فذلك ما لا نعرف له نظيراً في دنيا العَرْبَدة والاجتراء، ولكن لا عجب؛ فالشيخ خالد ينكر القِيمَ المعنويَّة، والفضائلَ النفيَّسةِ ولا يؤمنُ بأنَّ في طبيعتِنا ما هو مادّيٌ وما روحيٌّ، بل الإنسان في نظرِه ليس إلا ذلك المجموع الخليط العجيب من الأعضاء والأعصاب والدم والأمعاء والغدد، وينقل عن بعضهم، وقد سُئل عن السعادة فأجاب بأنّها :عملية هضم سليمة.

 

والشيخ خالد مع ذلك حربٌ على أن يكون الناس جميعاً مُتَّقين، ولكن عليهم قبل ذلك أنْ يُدرِكوا هذا المفهومَ الجديد الذي وضعه للتقوى، فالتقوى ليس معناها اجتناب الآثام والمحرّمات كما تصوّرها رجال الدين الأغبياء، ولكنّها : إطرق الغرائز وتوقّي كبتها حتى لا تزيد ضراوةً واستشلاءً، على أنّه ليس هناك شيءٌ اسمه خطايا أو الذنوب كما يقول الدين، فقد انتهى ذلك العهد الذي كان يُسمّى فيه الانحراف في السلوك بهذه الأسماء المُنفِرة، ولا ينبغي أن نخاف  اللهَ خوفا يُنقِصُ علينا عيشنا، وإذا كان هذا الخوف إنما ينبع من مبالغتنا في تقدير الخطيئة فلنعلم أنّ هذه الخطايا مستلزمات الطبيعة البشرية، ولا مندوحة لنا عنها، بل يجب أن يسميها خطايا ولا نرتّب عليها أيّ جزاء، وإذا كان الشعور بالخطيئة، وإنما يتولّد من اعتقادٍ أنّ هناك محرّماتٍ فلا بأس أن نرفض هذا الاعتقاد الذي يعطّل إرادتنا، ويضعها في سلاسل وأصفاد، كيف يُتاحُ لغرائِزِنا أن تتنفَّس، ولطبائعنا الحيّة الشاعرة أن تنمو وتَزدَهِر في ظلال هذا التحريم، إنَّ التربية الحديثة يجب أن تقوم على استبعاد التحريم ورفع نيره من النُّفوس ما وجد إلى ذلك سبيل.

 

والناس ليسوا في حاجةٍ إلى دينٍ يهديهم ويرشدهم إلى ما ينبغي وما لا ينبغي، فإنّ غرائزَهم تعرفُ الطريقَ الذي يجب أن تمضي فيه؛ إنّ علينا أنْ نَثق بطبيعتِنا الإنسانية، فهي وحدَها عدَّتنا في النِّضال، إنَّ غرائزَنا أعرفُ منّا بالطريق لأنّها وحتى وقبل أن ينْبَثِق فينا العقلُ كانت رائدنا العليم البصير، ولكنّنا في بلاد احتوشتها التقاليد وضللتها الأساطير مما جعلنا نقف من غرائزنا موقف الخصومة الغيبة.

 

وبعد..

فإن كان هناك من لا يزال يُحسن الظن بالشيخ خالد  ويريدُ أن يتأوّل كلامَه على ما يليق بمسلمٍ فضلاً عن عالمٍ فإنّنا نرى في كتيبه هذا الذي نحن بصدده دعوةٌ صريحة إلى التفلُّتِ من كل قيودِ الدين والأخلاق، ونبذِ كل ما تَعَارف عليه الناسُ من فضائل، والتحرر نحو ماديّةٍ طاغية لا تعرف غير المُتع البهيمية الرَّخيصة، ولكنّا نحمد الله –عز وجل- على أنّ هذا الكتيب قد ولد ميِّتاً، بعد أن أراد له صاحبه أن يميت أمّةً بأسرِها، وينحدر بها إلى هاويةٍ لا يُعرف لها قرار.

 

والآن فلنُتابع هذا الكتاب في أخلاقِه الجديدة إلى آخرِ الشوط، ولنَسمع إليه وهو يحدِّثنا عن السعادة، هذا الحديث الأبيقوري الشائق. إنّ السعادة ليست في التمسّك بأهدابِ التقوى، ولا  في ممارسةِ هذه الفضائل التي تَعَارف عليها الناسُ وأشَادَت بها الأديان، ولكن السعادة كل السعادة في الاستجابة المطلقة لغرائز النفس، وفي العمل وفق طبيعتنا الحيّة تلك الطبيعة التي لم توهب لنا إلا لِنسعَد بها.

 

وبقدرِ استثمارنا لهذه الطبيعة تجيء سعادتنا زاخرة موفورة وتلك السعادة في الفضيلة الحقّة أما هذه الفضائل التي تسبب ألماً وحِرماناً، فليست جديرة بهذا الاسم فذلك العجز الذي كان يسمى ورعاً، وذلك الخنوع الذي يسمى تواضعاً، والانطواء الذي كان يسمى عفّة، كل هاتيك غراقنيق، لعلّها قد انقرضت، وحلّت مكانها هذه الأخلاق الجديدة النابغة من طبيعة الإنسان.

 

هكذا يصوِّرُ الشيخ خالد السعادة  ذلك التصوير اللَّذي الصِرف، الذي يقوم على تحقيق رغباتِ الجسم، ويقيني أنه لو كان أبيقور أو أرسيت أو غيرهما من أصحاب مذاهب اللذة حيّاً لما تحدث عن اللذة هذا الحديث الذي يجعلها فضيلة، ويعلق عليها كل سعادة كما فعل الشيخ خالد أحد العلماء –قد يكون من الجائز أن يختار لنفسه ولمشايعيه في فلسفته هذا المسلك الذي يقوم على إرواء الغرائز وإشباع نهمها. أمّا أن يدّعي أنَّ هذا هو السلوك الأفضل ويتكلم عن الفضائل النفسيَّة بهذا الأسلوب الساخر فذلك ملا نعرف له نظيراً في دنيا العربدة والاجتراء.

 

ولكن لا عجب، فالشيخ خالد نكر القيم المعنوية والفضائل النفسية كلها، ولا يؤمن بأنَّ في طبيعتِنا ما هو مادّيٌ وما هو روحيٌّ، بل الإنسانُ في نظره ليس إلاّ ذلك الخليط العجيب من الأعضاء والأعصاب والغدد والأمعاء، وينقل عن بعضهم، وقد سئل عن السعادة بأنّها عملية هضمٍ سليمةٍ، ويُعرِّفُ هو نفسه السعادة بقوله لأن تروّض الغريزة ثم تمتطي صِهوتها وتنطلق بها في سياحةٍ بهيجةٍ عبر حياتِكَ الممتلئة الساحقة.

 

والشيخ خالد حريصٌ مع ذلك على أن يكون الناسُ جميعاً متَّقين، ولكن عليهم قبل ذلك أن يدركوا هذا المفهوم الجديد للتقوى، الذي ابتكرته عبقريَّتُه وهو: إطلاق الغريزة، وتوقّي كبتها حتى لا تزيد ضراوةً واستشلاءً. أما التقوى بمعنى اجتناب الآثام والمُحرّمات فهي من وضع رجال الدين الأغبياء! إذ ليس هناك شيء اسمه (الآثام) و (المحرمات)، فقد انتهى ذلك العهد الذي كان يسمى فيخ الانحراف في السلوكِ إثماً أو خطيئةً أو غير ذلك من الأسماء المُنفِّرة التي تقف حائلاً دون الاستمتاع بمباهِجِ الحياة ولذائِذِها، ولا ينبغي أن نخاف الله خوفاً ينغص علينا عيشنا، وإذا كان هذا الخوف إنَّما ينبع من مبالغتنا في تقديرِ الخطيئةِ، فيجب أن نعلم أنَّ هذه الخطايا ليست من الشَّفاعة كما صوّرها الدين أو تحدَّثت عنها الأخلاق، بل يجب أن لا نسمّيها خطايا، ولا أن نرتِّب عليها أي جزاء. إن الإثم الحقيقي هو أن يلازمنا شعور النَّدم على هذه الأخطاء، وأنَّ كل إنسان يشغل نفسه بعد ذنوبه وأخطاءه لا يكون إنساناً فاضلاً بالمعنى الصحيح، لأنَّ الأخلاقَ السويَّةَ تبدأ اليوم من هذا الشِّعار (ارفع رأسك .. فليس هناك ما يخجلك).

 

وإذا كان مصدر الشعوب بالخطيئة هو اعتقاد أنَّ هناك محرَّماتٌ فلا بأس أن نرفض هذا الاعتقاد الذي يُعطِّل إرادتنا ويضعها في سلاسل وأصفادٍ. بل كيف يتاح لغرائزنا أن تتنفس ولطبائعنا الحية الشاعرة أن تنمو وتزدهر في ظلال هذا التحريم. إنّ التربية الحديثة إنما تقوم على استبعاد التَّحريم ورفعِ نيره عن النفس ما وجد إلى ذلك سبيل.

 

وإذا كان الدين هو الذي أغراقنا في هذا السَّيل من المُحرَّمات، فالناس ليسوا في حاجةٍ إلى دينٍ يهديهم ويرشدهم، أما ما ينبغي ومالا ينبغي فإنّ غرائزَهم تعرِفُ الطريقَ الذي يجب أن تمضي فيه.

 

ثم يعرض الشيخ خالد بعد ذلك لمسئولية المجتمع عن أخلاقِ أفراده، ويتّهم المجتمعاتِ العربية والشرقية بأنَّها مجتمعات استغلاليّة انفصالية تروج فيها نقائص الكذب والنفاق ونقص الذات ويتحدَث عن مشاكل المجتمع الثلاث:

فأوّلها مشكلة العيش: والواجب حيالها هو إيجاد الفرص المتكافأة.


ثم مشكلة الجنس: وهذه لا تُحل في نظره إلى بإباحة الاختلاط الكلّي الذي لا يبقى معه أثر لحجاب أو حياء، وبتلقين الطلبة والطالبات المعارف الجنسية، بأن نجعل التربية الجنسية مادة أساسية في مدارسنا، ولنكن على يقين من أن الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم- يباركان هذا العمل العظيم.

 

وأخيراً يدعو الشيخ خالد إلى قيام وزارة للتربية والسلوك، ولكن . . أتدري ما مهمة هذه الوزارة الجديدة؟ أنّها تنفِّذ ذلك الدستور الذي وصفه الشيخ خالد للأخلاق والسلوك، وعلى ذلك فيجب أن يكون الشيخ خالد على رأس هذه الوزارة الجديدة حتى يضمن تنفيذ وصاياه، ومبادئه بكل دقّة وإمعان.

 

تالله ما أقبح الغرور وما أتعس مجتمعا يعيش فيه أمثال هذا الكاتب ممن قتلها حب الظهور، فراحوا يشغلون أُمَمَهُم عن مواطن الجد وحياة الكرامة بما ينفثون فيها من ترّهات لا تجني من وراءها إلى العار والشّنار.

 

------------------------------

(1)مجلة الهدي النبوي [10 / 258-260،  289-292، 321-322، 358-360].

(2)هو خالد محمد خالد ثابت، كاتب ومفكّر مصري أزهريّ، كانت له علاقة مع جماعة الإخوان المسلمين وبزعيمها حسن البنا، فاعتنق فكرهم دون الالتحاق بهم بشكل رسمي؛ ولما تخرج من الأزهر سلك طريق العلمنة ودخل من أوسع أبوابها، فكتب كتابه: "من هنا نبدأ" ونادى فيه بفصل الدين عن الدولة، ولم يُكتب لكتابه القبول، فلجأ لحيلة خبيثة، فكتب كتاباً ردّ فيه على نفسه فاشتهر الردُّ، وبدأ مشايخ الأزهر وغيرهم يرودّون عليه، ولازال الأستاذ خالد يكتب في الصحف ويؤلّف الكتب الناصرة للعلمنة والإلحاد حتى لفت انتباه الغرب، فصاروا يروّجون كتبه ويدعمونها، فلمّا رأى نشاطهم وحماسهم في إبراز كتبه أيقن أنّ القوم قد استغلّوا كتبه كسلاح لضرب أُمّته، فكتب كتابه: "الدولة في الإسلام" كردّة فعل، وأظهر تراجعه عن فكرة فصل الدين عن الدولة.

سألت فضيلة الشيخ حمد بن إبراهيم العثمان –حفظه الله- عن خالد محمد خالد فقال: (الرجل كان مع القطبيين ثم صار علمانياً، كان مع جماعة سيد قطب ثم تركهم).

(3)الفسيولوجيا: علم وظائف الأعضاء.

(4) الميتافيزيقا: علم ما وراء الطبيعة.

(5)هذا أو الطوفان صـ 13.

(6)هذا أو الطوفان صـ 15.


مقال (جماعة أهل الحديث في الهند..حوار مع بعضهم) للعلامة عبدالظاهر أبو السمح

الحمدلله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فهذا حوار ممتع بين سماحة الشيخ العلامة عبدالظاهر أبو السمح المصري المكي، إمام الحرم المكي ومؤسس دار الحديث بمكة، وأحد علماء أهل الحديث في الهند حول التقليد.

 

 (( جماعة أهل الحديث في الهند...حديث مع بعضهم ))

 

"في الهند جماعة عظيمة من أهل الحديث -كثرها الله تعالى ونصرها- لا تعمل إلا بالكتاب والسنة، وتنكر التقليد الأعمى أيما إنكار.

 

نشأت هذه الجماعة في الهند من أفراد قليل عددهم، فلما قاموا بالدعوة إلى العمل بالكتاب والسنة وإنكار التقليد قامت بينهم وبين أهل المذاهب والفرق خصومات شديد، ثم منازعات عنيفة، استعملت فيها العصى الغليظة والمدى وغيرها، وذهبت فيها أرواح وسالت دماء، وكانت النتيجة أن وقفوا جميعاً أمام المحاكم القانونية، فحكم لأهل الحديث على خصومهم، وأيدتهم الحكومة المحليّة بعدم التعرض لهم، فاشتد ساعدهم، وكثر عددهم، وخرج من ربقة التقليد وقيوده خلق كثير.

 

ومازالوا يكثرون حتى صاروا ألوفاً منتشرين في جميع أصقاع الهند، فنساؤهم وصغارهم لا يعرفون غير (قرآن وحديث) ولقد سمعت من بعض علماءهم في الحرم المكي ما لفظه: (إنَّ التقليد شرك في الرسالة).

وسمعت من بعضهم من يقول: (كل عبادة يعملها المقلِّدُ ناوياً فيها اتِّباع أحدٍ غيرَ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كائناً من كان فهي باطلة).

 

قلت له: إذا كان مقلِّداً لأحد الأئمة: الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة أو أحمد ابن حنبل مثلاً، ومعلومٌ أنَّ  هؤلاء الأئمة -رحمهم الله تعالى- متبعونَ للرسولِ؛ وهؤلاء المقلِّدون متّبعون للمُتَّبِعين؛ فتكون عبادتهم صحيحة، ضرورة أنّ عبادة الأئمة صحيحة.

 

فقال صاحبنا: ليس الأمر كذلك، وإنما جاءهم الفساد من قِبل النيَّة، فإنَّ الرسول –صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنما الأعمال بالنية)) وهو حديث صحيح رواه البخاري مبتدئاً به كتابه، ورواه غيره. وقد أَمرَ الناس جميعاً أمراً يعُم الصحابة وغيرهم إلى يوم القيامة باتّباع محمد –صلى الله عليه وسلم-، لا فرق في ذلك بين أبي بكر الصديق وبين غيره.

والمقلِّد حين يتوضأ وحين يصلي يتّبعُ غير الرسول –صلى الله عليه وسلم- وينوي تقليد غيره ممن لم يؤمّر باتّباعه، وهذا هو السِّر في بُعدِ الناس عن الرسول –صلى الله عليه وسلم-، ووقوع الوحشة في في قلوبهم من اتباعه رأساً؛ وذلك مِصداقُ قوله تعالى: ((فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم))، وأي فتنةٍ أعظم من نِسيان الرسول –صلى الله عليه وسلم- وتركهِ واتّباعِ غيره ممّن ليس بمعصوم؟ مع أنَّ الإنسانَ حين يوضع في قبرِهِ، ويُسئل يقال له: ((من هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فأما المؤمن فيقول: هو محمد، هو رسول الله، آمنت به اتّبعته، وأما الكافر أو المنافق فيقول: هاه، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته)) وهذا هو التقليد الأعمى بعينه.

فانظر كيف أجاب المًتَّبِعُ لرسول الله–صلى الله عليه وسلم- وكيف أجاب المُقلِّد تعرف الفرق بين الاتباع والتقليد.

 

فقلت له: ما تقول في قوله تعالى: ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))، وقوله تعالى: ((ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً))، أليس في هذا ثبوت التقليد؟

 

قال: لا.

 

قلت: كيف لا والله يأمر الجاهل أن يسأل أهل الذكر؟ وفي الآية الثانية أنَّ من يتّبع غير سبيل المؤمنين يولِّه ما تولى ويُصلِهِ جهنم، والمُقلِّد متَّبِعٌ سبيل المؤمنين في الجملة.

 

قال: لا.

 

قلت: إذاً اشرح لي الآيتين وبيّن لي ما عندك فيهما.

 

قال: أما قوله تعالى: ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))فمعناه:

أنَّ على الجاهل شيئاً من العلم أن يسأل عنه أهل العلم، أي عليه أن يتعلَّم ليَعلم، وهذا الذي نريده، ولا ريب أنّ السؤال عن العلم حتى يعلم يناقض التقليد، ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((ألا سألوا إذا لم يعلموا إنما دواء العي –الجهل- السؤال)).

فالآية الأولى تحثُّ الجاهل على التعلم، ليخرج من ظلمة التقليد إلى نور العلم.

والثانية تفيد أن سبيل المؤمنين هو اتّباع الرسول –صلى الله عليه وسلم- وعدم مشاقَّتِه، والمقلد مخالفٌ سبيل المؤمنين، مشاقٍّ للرسول، ألا ترى أنَّ المقلد يعمل عملاً في الصلاة –مثلا- كارسال يديه و وضعها على صدره؛ فتُنْكِرُ عليه ذلك فيقول: مذهبي مالكي أو أنا على مذهب مالك، فتذْكر له حديثاً نبوياً صحيحاً يرويه مالك نفسه في موطَّئِة وغيره من أئمة الحديث، فلا يلتفت إليك، ولا يأخذ إلا بقبول علمائه المقلدين.

ألا يصير مشاقَّا للرسول حينئذ؟ مراغماً لسُنَّته، مؤثِّراً عليها قول الغير؟ وكفى بهذا إثماً كبيراً.

 

قلت له: ما العمل إذاً في العوام والنساء، وكيف يتّبعون الرسول وهم لا يعرفون العربية، وخصوصاً نساؤكم وعوامكم الأعاجم؟

 

قال: إننا نُعلِّم نساءنا العربية، ونُقرِّئهن كتب السنة الصحيحة، وكذلك أولادنا، وأما عوامنا فقد اعتادوا أن يسألونا عن حكم الله ورسوله، واعتدنا ولله الحمد ألاّ نجيبهمإلا بالنصوص القرآنية والاحاديث النبوية، فإنْ لم نَجِد بحثنا فتاوى الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين.

 

قلت: قد رجعتم إلى التقليد.

 

قال: لا، لأنّنا ننظر مآخذ الأئمة وترجيح ما يشهد له الدليل، وهذا نادر.

 

قلت: ألا يكون العامّي الذي يأخذ باجتهادك وترجيحك مقلداً لك في هذه الحال، مفارقاً هدي الرسول –صلى الله عليه وسلم-؟

 

قال: لا، لأنّ العامي متّبع رسول الله في عقائدِه وعبادته؛ وكل ما يلزم العوام من الدين ظاهرٌ واضح بالنصوص، وإنّما تُعرَض بعض المسائل، فالواجب على العامِّي أو من عُرِضَ له شيءٌ يجهله من أمر دينه أن يسأل العالمَ به، كما أنّه إذا أراد أمراً دنيوياً لا يُحْسِنه يبحث عمّن يحسنه ليعمله له كبناء بيت أو نحو ذلك. فالدين أهم عند المسلم من أمر الدنيا؛ فهو يبحث عن العالِم بالكتاب والسنة ليسأله، وفي هذا اجتهاد منه؛ وبسؤالِ العالم عن حكم الله ورسوله صار معذرواً. والعالِم إذا اجتهد في البحث عن الصواب وأصابه فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر بما بذل من جهد.

 

قلت: أليس من الصعب جداً أن يتعلم نساؤكم العربية، ثم قراءة السنة وفهمها، والقرآن تفسيره؟

 

قال: إن عندنا مصاحف عليها تفسيرها بالأردية والفارسية، وكذلك كتب السنة، فاللوتي لا يعرفن العربية يقرأْنَ الترجمة فيفقهنَ معنى قول الله وقول رسوله، وهُنّ يُعلِّمْنَ بناتَهن وأولادهن عملياً، وليس عندنا معشر أهل الحديث إلا قال الله، قال رسوله، أو كذا فعل الرسول، كذا هدي الرسول –صلى الله عليه وسلم-، كما يدور ذكر المذهب على لسان المقلّدين.

ثم قال: وإني لأعجب من مصر وهي كما يقولون: (عروس الشرق وزعيمة الإسلام، وفيها الجامعة الأزهرية) وليس لأهل الحديث فيها ذكر ولا لهم وجود.

 

قلت له: إن في الأزهر كثيراً من أهل الحديث السلفيين وأنصار السنة العاملين، ولهم مجلة تدعى (الهدي النبوي) غير أنَّهم بالنسبة لجماعة أهل الحديث في الهند قليل، وسيكثرون وتكون لهم مدارس لتعليم القرآن والسنة خاصة -إن شاء الله-، وإنّه يوجد في مصر في كل بلد وقرية منها جماعة سلفيون يحبون السنة ويعملون بها.

 

قال: ولكن هل بينهم أحد من أهل العلم يقرأ لهم كتب السنة بنظام؟

 

قلت: هذا لما يوجد بعدُ، ولكن في مصر أفذاذ علماء الحديث.

 

قال: هل تعرف أحداً منهم؟

 

قلت:نعم أعرف الأستاذ العلامة القاضي المحقق الشيخ أحمد محمد شاكر، والأستاذ العلامة رئيس جماعة أنصار السنة ورئيس تحرير الهدي النبوي الشيخ محمد حامد الفقي، والعلامة المفضال الشيخ عبدربه مفتاح رئيس الوعاظ والإرشاد، والأستاذ العالم الواعظ عبدالوهاب العيسوي، وأعرف غيرهم كثيرين ولله الحمد، لا تحضرني أسماؤهم الآن.

 

وحسبك أنّهم قضوا على وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد، وقرءوا قانوناً يعمل به الآن في الحكومة بعدن وقوعها: وهو خلاف المذاهب الأربعة.

 

والآن في مصر نهضة علميّة قوية مجددة تريد سَنَّ نظا من الشريعة الغرّاء غير مقيّدٍ بمذهبٍ خاص.

 

أما يكفيك هذا كله في أنَّ بمصرَ جماعات كثيرة من أهل الحديث والفكر المستقل؟ وشيخهم الأكبر شيخ الجامع الأزهر إمامهم يشجعهم، وينفخ فيهم روح التقدّم والاستقلال الفكري-اقرأ خطبه الغرّاء ترَ ما يسُرُّك.

 

وانتهى بنا الحديث إلى هنا إذ قامت الصلاة فوعدته إلى الملتقى.

 

أبو السمح"

 

] مجلة الهدي النبوي / العدد الخامس لعام 1356هـ / صـ25-29 [ .

 

 

إضــافة رد

الأربعاء، 13 أغسطس 2014

ماهي دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب؟ للشيخ صالح سندي

الحمدلله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فأصل هذه المقالة (١٨) تغريدة كتبها شيخنا الفاضل د.صالح سندي -حفظه الله- في تويتر، فجمعتها ورتبتها خدمة لطلاب الحق ونشراً لعلم معلمي، أجزل الله له المثوبة.



ما هي دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب؟


ج:
إنها صورةٌ مشرقةٌ للإسلام النَّقي الذي نزل به القرآن وعرفة المسلمون قبل أن تَفشُوا بينهم الأهواء.

إنها ثورة...
ثورة على الجهالات والخرافات والظلم،
إنها صوتٌ راعدٌ أذكى الحماسةَ الدينية، وألهب الغيرةَ الإيمانية؛ فأيقظ عقولا ناعسة، ونبَّهَ هِمما متدنِّية.

خلاصة هذه الدعوة:
أن يكون المسلم عزيزًا بربه، فلا يعرف الذل إلا له، ولا الخوف إلا منه، ولا الفزع إلا إليه، فأكبرُ جنايةٍ على وجه الأرض أن يشرك به.

إنها دعوةٌ تأبى الابتداعَ أشد الإباء، وتحارب المحدثات أشد المحاربة، وتعتقد أنَّ الدينَ أجلُّ من أن يكون عُرضةً لمزجه بالآراء، أو تُشوِّه محاسنه بالأهواء

لقد أَرست دعائمُ علم التوحيد
فقُعِّدت قواعده، وضُبطت ضوابطه، وبُينت الشروط والأركان، وذُكرت التقاسيم والأنواع، فكانت مدوناتها من أنفع ما كتب فيه، كما تميزت بعنايتها بأصل أصيل وقَاعدة راسخةٍ في الشرع؛ ألا وهي:
سد الذرائع إلى الشرك، وحماية جناب التوحيد، فأبدت فيها وأعادت،ووضحتها كل الإيضاح.

كما أنها ركزت على قاعدتين عظيمتين:
أنّ الرجال يُعرفون بالحق، وليس أنّ الحق يُعرف بالرجال، وأنّ الكثرة ليست دليل الحق، إنما الحق ما وافق الوحي، وليس من المبالغة أن يقال:
إنها دعوةٌ فريدة؛ أحسنت فهم الواقع، وقرأت الحال؛ فعرفت الدَّاء؛ فشخَّصت الدَّواء.

ومن مميزاتها أنه تجردت عن أي هوى أو عصبية، فلم تعلق الناسَ بقياداتٍ أو تحزبهم عليها، بل ربّتهم على التجرد للنصوص، فوحَّدت الكلمة على كلمة التوحيد.

فأصلُ الموالاة والمعاداة سمةٌ بارزة فيها،
غير أنه لم يكن معقوداً إلا على أساس التوحيد والحب في الله والبغض في الله، وهذا أوثق عرى الإيمان

لقد كان ثمَّة دعاة للتوحيد قَبل الدعوة وفي ابتدَائها وبعد نشأتها، لكن خاصيتها: الشجاعة والحزم والوضوح، أو كما يقَال: وضعت النقاط على الحروف

فأعطت كل ذي حق حقه، ووضعت الهدى والضَّلال في محلِهما بدقَة، ووصفتهما بما يليق بهما دون إِعجام.

ومن تهويش أعدائها:
لمزهم إياها بأنها لا تمثل إلا نفسها! والحق أنها دعوة إسلامية
لِذا فأنت تجد في كتبها نقلَ تقرير التوحيد عن جميع المذاهب.

قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب:
أنا أخاصم الحنفية بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي والشافعي والحنبلي؛كُلاً أخاصمه بكلام المتأخرين من علماء مذهبه.

ومن نُصرة الله لها:
أنه ما سمع بها أحدٌ من المنصفين -قَرُب أو بعُد- إلا وتأثر بها أو أيّدها

قال مؤرخ مصر: الجبرتي -بعد نَقلٍ عنها-
(فهذا ما ندين الله به نحن أيضا، وهو خلاصة لباب التوحيد،وماعلينا من المارقين والمتعصبين) [عجائب الآثار3-403].

ولك أن تعلم أنه قد تأثر بها سلطان المغرب: محمد بن عبد الله العلوي، وابنه سليمان، وابنه إبراهيم بن سليمان،
فكانت صفحةً مشرقةً للدعوة السلفية بالمغرب.

أخيراً...
رحم الله الشيخ تقي الدين الهلالي، القائل:
نسبوا إلى الوهَّابِ خيرَ عباده **
يا حبذا نسبي إلى الوهابِ

أكرم بها من فرقةٍ سلفيةٍ **
سَلكَتْ محجةَ سُنةٍ وكتابِ

الخميس، 7 أغسطس 2014

موقف السلفي من العالم إذا أخطأ أو وَهِمَ


 
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
 
ففي عام 1358هـ كتب أحد علماء الأزهر وهو الشيخ علي الزنكلوني كتابا يطعن فيه بشخص العلامة محمد حامد الفقي –رحمه الله- مجدد الدعوة السلفية في مصر، وقد طار برده ذاك الأشاعرة أصحاب (مجلة الإسلام)، ففوجئ الشيخ حامد بذلك الكتاب، فأخذه وعرضه على الشيخين عبدالمجيد سليم شيخ الأزهر –آنذاك- وأحمد حسين وزير الأوقاف –آنذاك- رحمهما الله ليأخذ منهما النصيحة والتوجيه، فاستنكرا كلام الشيخ الزنكلوني أشد الاستنكار، ونصحاه بالصبر على أذاه، واحتساب أجره عند الله.

 فكتب الشيخ حامد الفقي –رحمه الله- مقالة رائعة دافع فيها عن نفسه، وعاتب فيها شيخه الزنكلوني بعبارات يفوح منها عبق الأدب والاحترام والتقدير لذلك الشيخ الكبير، فكان مما قال:

(وإني أحمد الله إذ وفقني وأسأله أن يوفقني دائما إلى الهدوء والتثبت، ويَقيني شر الغرور بالنفس والانخداع بالظواهر، ويكرمني بخير الخصال، من التواضع للعلم، وأن أتّهم رأيي دائما، فلا أتقدم إلا حيث أجد الخير في التقدم، بعد التروِّي وبحث الموضوع من جميع نواحيه جهد الطاقة وقدر المستطاع، واستشارة من أعرف من المجرّبين الناصحين المخلصين، ثم أستخير ربي بعد ذلك في التقدم إلى تنفيذ ما أشار إليه الناصحون، ولقد رأيت كثيرا ما جرّ التسرع وسبق اللسان على صاحبه من ندم طويل وعناء كثير.
وإني بعد أن قرأت كتاب شيخنا الكبير الزنكلوني مراراً فلم أجده بيّن لي ناحية من نواحي الخطأ العلمي، ولا حدد لي فيه زلّة في العقيدة، ولا أوقفني على كبوةٍ دينية بعينها خالفت في شيء من هذا كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- وهدي أئمتنا المهتدين –رضي الله عنهم-.
ولم يعدُ كتابه الطويل أن تناول شخصي الضعيف بكلام، الله أعلم بحقيقته، وحكمه إلى ربي الذي عليه توكلت وإليه أنيب، والذي يعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، والذي يجزي كل نفس بما كسبت يوم لا تكلم نفس إلا بإذنه.

أيها الشيخ الزنكلوني الكبير...
إني أحترم شيبتك، وأوقر شيخوختك، وأرحم وهن عظمك، وتناوب الأمراض عليك –عافاك الله وشفاك وقواك- وأقدِّر كل تقدير مع كل هذه الاعتبارات حالتك النفسية وما يكون لها بسُنة الله التي لا تتبدل من التأثير على الأعصاب، خصوصا أعصابك، وأستحضر مع هذا أيضاً ما تكرره –فضيلتك- في مجالسك عن الفيلسوف (لامبير) وما أصابه من تهدم أعصابه واضطرابها لحادثة موت امرأته؛ وتدليل –فضيلتكم- بذلك على أن الرجل مهما كان عظيما فإن الحوادث تؤثر على تفكيره، وتوهن من قواه العقلية، فتلتمس له الأعذار إذا هو هفا بما لم يكن متصوراً منه من قبل إصابته بالكوارث والحوادث المنهكة.

لذلك كله أقول لشيخنا الكبير الزنكلوني في يقينٍ ورضا واطمئنان:
غفر الله لنا ولك، وعفا الله عنا وعنك، ورزقنا الله وإياك الصدق في القول والإخلاص في العمل، وشغلنا الله وإياك بما يعيننا وينفعنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا، وحسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم..). ]1[ .
 

قلت (أبو عمر) :
يستفاد من هذه القصة المختصرة النفيسة:
1-احترام العالم وتوقيره وإن أساء وظلم، وتنزيله منزلته العلية التي آتاه الله إياها.
2-التماس العذر للعالم الكبير، وتفتيش الأعذار عن أخطائه وزلاته ووهمه، ومراعاة كبر سنه وشيخوخته.
3-التأدب والتلطف مع العالم في مقام الرد، وعدم الحط من قدره، قال الحافظ الذهبي –رحمه الله-: (إن الكبير من العلماء إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق، واتسع علمه وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زلَلـه، ولا نضلله ولا نطرحه وننسى محاسنه).
4-الرجوع إلى العلماء عند الفتن، والسعي لإطفاء نيرانها.

الله أسأل أن يجملنا وإياكم بمحاسن الأخلاق.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

------------------------------------
]1[ مجلة الهدي النبوي العدد 30 لعام 1385 هـ / صـ25-26 (مقال: وأن تعفو أقرب للتقوى ، ولا تنسوا الفضل بينكم)

السبت، 2 أغسطس 2014

كيف استطاع الغرب تمزيق بلاد المسلمين ... للعلامة عبدالرزاق عفيفي

الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

قال العلامة عبدالرزاق عفيفي -رحمه الله- حاكياً طريقة أعداء الإسلام لتمزيق أمتنا الإسلامية:

( فلما أعيتهم الحِيلُ للنيل من الإسلام وأهله بالقوة والسيف أو بالحجة واللسان عمدوا إلى السلاح النسوي، سلاح الدَّس البغيض والتلبيس، فلبّسوا لذلك الأمة النفاق، وتدرّعوا بدروع التقيّة خشية الظنون والريب، وخشية أسياف الغيورين من المجاهدين، مستبطنين الكفر والعدوان، فأوضعوا خلال المسلمين يبغونهم الفتنة، فأوغروا صدور الرعية على الرعاة، وملأوا قلوبهم ضغينةً بأولياء الأمور، واحتالوا على تحطيم الإخاء، ورفع الثقة بالحكام، بضروبٍ شتى من الفتن، وساعدهم على ذلك الأغرار والأحداث وسفهاء الأحلام من لا تخلو أمة من أمثالهم).

اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها اهل طاعتك، ويهدى فيها أهل معصيتك، ويعمل فيها بشرعك الحنيف، ويؤمر فيها بالمعروف وينهى فيها عن المنكر.

آمين

٦ - شوال - ١٤٣٥ هـ

--------

(مجلة الهدي النبوي/ العدد (١) لعام ١٣٥٦هـ/ صـ٨)