الثلاثاء، 19 أغسطس 2014

أخلاق أم فوضى ؟! للعلامة محمد خليل هراس (ردا على خالد محمد خالد)

هل قرأت كتاب الشيخ خالد محمد خالد (2) الجديد (هذا أو الطوفان)؟ وهل أتاك نبأ هذه الأخلاق الجديدة التي يبشّر بها في هذا الكتاب ويدعو إليها في حرارةٍ وإيمان، معتقداً أنّها المنقذ الوحيد لهذه الأمة من الطوفان؟ وهل سمعت عن (أبيقور) و (أرستب) وغيرهما من فلاسفة اللذَّة القدماء؟ وهل تعلم أن الشيخ خالد يسعى جهده في هذا الكتاب لإحياء تلك المذاهب القديمة التي لا تقيم وزناً لدينٍ ولا لفضيلةٍ ولا تعرف إلا اللذة ولا شيء غير اللذَّة؟

إن كُنتَ لا تعرف شيئاً من ذلك أيها القارئ فأنا أدلُّكَ على الكنزِ الثمين الذي تعثر فيه على هذه الفلسفة الأخلاقية الرائعة، إنّه كتاب الشيخ خالد الجديد. نعم: ومن أقدر من الشيخ خالد على كتابة هذه الحماقات؟ ومن أجرأ من خالد على نفث هذه السُّموم التي لا تَذَر من شيءٍ أتت عليه من معنوياتِ هذه الأُمّة وفضائلِ دينها إلا جعلته كالرميم؟

 

ومِن العجيب أنْ ينشر هذا الكتاب ويطبع للمرة الثانية وتتداوله أيدي الألوف من شباب هذه الأُمّة دون أن نسمع صيحةَ إنكارٍ واحدةٍ تقول لهذا المؤلّف الذي يريدها فوضى ماحقة ودماراً سريعاً: على رِسْلِك أيها الداعي إلى شيء نُكُرْ، والمُشعل نارَ فتنةٍ لا تُبقي ولا تَذَرْ؛ وتقول للناس المخدوعين بهذا المؤلّف وأمثاله: احذروا هؤلاء  الذين يتجرون بأثمن مقومات حياتكم وأعزها عليكم، والذين يردونكم باسم (العلم والمدينة) إلى دركات البهيمية السافلة والشهوات القاتلة.

 

يزعم الشيخ خالد أنّه يتكلم في كتابه بلسان العلمِ القائم على التجارب الصحيحة والإحصاءات الدقيقة، ويزعم أن مسائلَ الأخلاق والسلوك مما يدخل في نطاق العلم التجريبي، مخالفاً بذلك أساطين علماء النفس والأخلاق، ومقلد الشرذمة من الماديين الذين يرحّبون كل ما يصدر عن الإنسان من أفكارٍ وإرادات وميول إلى وظائف فسيولوجيّة (3)، حتى أنّهم ليقولون: ( أنّ المخ غُدَّة لإفراز الفِكر، وأنّ الإنسانَ ليس إلا هذه المجموعة من الأعضاء، والغُدد والدم والأعصاب...الخ).

 

 ونحن لا ننكر العلم ولا نعاديه بل نؤمن بأنّ العلم اليقينيّ القائم على التجربة لا يمكن أن يتعارض مع الدّين، لأنّ الرُسُلَ –عليهم الصلاة والسلام- لم يجيئوا بما يتعارض مع نظام الكون وطبيعة الوجود، وإنما جاءوا بكل ما يُكمل الفطرةَ الإنسانية، وليس في الأديان ما يُجافي النواميس الكونية، أو يكابر الوجدان السليم، ولكنّا مع ذلك لن نُخضع الدِّين للعلم كما يريد الشيخ خالد، ولن نُسلِّم للعلم القِياد، بل سيظل الدين أبداً هو رائدنا إلى كل حقٍّ وخير، وستظل أعلامه المنصوبة على طول الطريق هي المُرشدةُ لنا في متاهات الحيرة والضلال، وسيظل سلطانه المقدس هو الحاكم في سلوكنا وأخلاقنا، لأنّه شيء قد اختلط بأرواحنا وقلوبنا، بل وبلحامنا ودمنا وأعصابنا، فهو لنا كالنور للعين والعافية للمريض، بل هو الحياة، ولا قيمة بعده للحياة.

 

والآن وقد تشوّقتَ أيها القارئ إلى معرفة ما احتواه هذا الكُتيّب مما بعد قحة واجتراء على الدين ودعوةٌ صريحة إلى الإباحية والإنطلاق، وكان من غير المستطاع في هذه العُجالة أن نضع يدك على كلما فيه من مآخذ وأخطاء فلا أقل من أن نمر بك في عرضٍ سريعٍ على أهمِّ النُّقط التي جاوز فيها المؤلف كل حدٍّ، وخرج على كلِّ مألوفٍ.

 

يبدأً الشيخ خالد الفصل الأول  من كتابه بهذا العنوان: (هنا لا هناك) ويكتب تحت هذا العنوان نقلاً عن بوذا (لستُ أعرفُ شيئاً عن سرِّ الإله، ولكن أعرفُ شيئاً عن بؤسِ الإنسان)، ولعلّ في وضع هذا النص تحت هذا العنوان ما يُفصحُ غايةَ الإفصاحِ عن الفلسفة الجديدة للشيخ خالد وهي: أنها فلسفة إنسانية أرضيّة لا تؤمن بالميتافيزقا (4) ولا بشيء من أمور الغيب، بل لا تؤمن إلا بالواقع المحسوس، وسيأتي  في خلال هذا الكتاب ما يزيد هذا المعنى بياناً.

 

إن الشيخ خالد يَعُدُّ كل ما تحدَّثّت عنه الأديان من شئون الغيب أساطير وخُرافاتٍ لا مجال لها في عصور النور والعلم، ولا بُدَّ أنْ تأخُذَ سبيلها يوماً إلى الانقراض كما انقرضت أنواع الحيوان المختلفة عن مُجاراةِ ركبِ الوجود. إن كل ما ليس بمحسوس هو في نظر الشيخ خالد غير موجود، فهو لا يؤمن بالشيطان ولا بالملائكة ولا بغير ذلك مما لم يقع تحت بصره، ولكنّه لا يؤمن بهذا الإنسان الذي يعرف من بؤسه وشقائه أشياء وأشياء.

 

ثم يتحدّث الشيخ خالد في هذا الفصل عن خمسِ نقاطٍ:

 الأولى بعنوان: (من الغابة إلى المدينة).

 والثانية بعنوان: (من المحراب إلأى التشريح).

والثالثة: (ليس هناك شياطين).

والرابعة: (التديُّن قد يكون انفعالاً مرَضيا).

والخامسة: (هذا هو الإنسان).

 

ولعل في هذه العناوين نفسها ما يكفي لبيان دخيلة الشيخ وما يهدف إليه من نبذِ الموروثات القديمة من الأديان والتقاليد والانتقال من محاريب العبادة إلى غرفِ التشريح، حيث يقوم العلماء هناك بالكشف عن ما يثير النَّفْسَ وحل ألغازها واستِنْكاه دخائِلها، وحيث يقومون بتشخيص أمراضها ورذائلها، ولكنّا مع ذلك لن نكتفي بالعناوين بل سنتابع الرحلة عبر هذا الكتاب، لنقفك أيها القارئ منه على العجب العُجاب.

 

ففي النقطة الأولى يبدأ الشيخ خالد رحلةً تاريخيةً ينتهي فيها إلى سُقراط العظيم، ذلك الرجل الذي أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، وجعل شِعارَ فلسفته: (إعرف نفسك بنفسك)، وبذلك استطاع أن ينقلنا من حياة الغابة الموحشة ويقف بنا على أبواب مدينة السعادة بعد أن فضَّ مغاليقها، ولكن يا ترى: هل سنظل هكذا على  باب هذا الفردوس البهيج، دون أن نحظى باقتحامه والتنعُّمِ فيه؟أنّ الطبيعة الرحيمة بالإنسانية وهبتها رجلا آخر ليس عظيماً فحسب، ولكنّه في نظر الشيخ خالد عظيمٌ جدّ عظيم، ذلك الرجل هو (أبيقور) فيلسوف اللذَّة  المشهور.

 

ولكن أتدري أيّها القارئ لماذا كان أبيقور في نظر الشيخ خالد عظيما جد عظيم؟ولماذا كان في نظره رائداً من روّاد الإنسانية العظام؟

 

لأنّه آمن بأنَّ الغاية الأخلاقية هي اللذّة والبعد عن الألم، وأنَّ هذه الغاية هي التي يجب أن نُصدِرُ عنها في كلِّ سلوكنا وأعمالنا، وأنَّه لا معنى للسعادة ألا نعيش في لذائذ موصولة لا يتخللها شيء من الآلام؛ ولمّا وَجد أبيقور أنَّ تحقيق هذه الغاية مستحيلٌ لأنَّ الناسَ يخافون الآلهةَ ويخافون الموتَ، وبذلك اقتحم أبيقور كما يقول الشيخ خالد: ( المدينة.. بعد أن تركنا سقراط على بابها، ولقد كنّا نذعر من دخولها، ونخاف فأزاحَ الرجلُ العظيم المخاوفَ من طريقنا، ودخل أمامنا مُلوِّحاً من بعيد بيدهِ البارّة أن ادخلوا، فهل دخلنا؟) (5)

 

هكذا يتحدَّث الشيخ خالد عن أبيقور اللَّذي المُلحِد، وهكذا يضفي عليه من ألوان العظمة والمجد ما يضمن بمعاشرهُ على رسولٍ من عند الله، ويتّخذ من فلسفته التي تقوم على هدمِ الأديان وإنكار الفضائل شعاراً له في الحياة.

وصلنا في المقال السابق مع الشيخ خالد في رحلته إلى أبيقور، ذلك الرائد العظيم الذي فتح للإنسانية باب المدينة السعيدة الفاضلة، وأخذ على حدِّ تعبير الشيخ خالد يلوح لهم من بعيد بيده البارَّة أن: ادخلوا.

 

ولكن الشيخ خالد يأسفُ أشدَّ الأسف لأنّ تعاليم أبيقور اللَّذِيَية الإلحادية لم يُكتب لها أن تتعمَّق في ضمير البشرية، ولم يكتب لتيارها الدافق أن يستمر في سيرِهِ، ولكنَّه أُصيب بجُرعةٍ وانتكاس بسبب (أن فتىً شاحبَ البَدَن مشرقَ النَّفْس قدِمَ إلى الدنيا في زيارةٍ قصيرة سريعة).

 

ولا تعجب أيها  القارئ إذا علمت أنَّ الشيخ خالداً يريد بهذا الفتى عيسى روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، ويُعبِّرُ عنه بهذا الكلمات التي تحمل معاني السُّخرية والإشفاق، ولم يرضَ حتى أن ينعته بما نُعت به من قِبَل أبيقور وسقراط، وليس ذلك فحسب، بل يحرص الشيخ خالد على أن يدلَّنا على مقدار الفرق الهائل بين وصايا أبيقور العاقلة الرشيدة وبين تعاليم الأنبياء الخيالية الحالمة فيقول:

(لقد وقف المسيح –عليه السلام- ينادي الناسَ قائلاً: "لا تُقاوِموا الشرَّ"، وبعد قليل سيجيء محمد –عليه السلام- ليقول: "تخلّقوا بأخلاق الله" وكلتا الدعوتين نبيلة وفاضلة، ولكن هل يستطاع تنفيذها؟ كيف يطالبُ منّا المسيح أن لا نُقاوِمَ الشرَّ؟ مع أنّ الإله نفسه يعجز عن ذلك بدليل فعله في قرى قوم لوط؛ وكيف يطلب منّا محمد أن نتخلّق بأخلاقِ اللهِ وهو يعلم أنّنا بشرٌ ولسنا ملائكة؟ أين هذه المِثاليَّة المتطرّفة التي دعى إليها هذان الرسولان من واقعيّة أبيقور الواعية الهادفة؟ أليست هي أولى وأحقّ بالاتباع؟). (6)

 

ثم يتصوّر الشيخ خالد أن العلمَ والدين عَقَدا فيما بينهما اتّفاقيةً على أن يعمل كلٌّ منهما في نطاقِ اختصاصِه، وظَفَرَ العلمُ في هذه الاتفاقية بنصيب الأسد، فهو الذي يضع المفاهيم الجديدة للأخلاق، والذي يشخّص الرذائل تشخيصاً مستمدّاً من طبيعة الإنسان، وهو الذي يعالجها بوسائلِهِ الخاصة، ولا بأس أن يستعين  العلمُ بالدين إذا رأى ذلك، ولكن الكلمة الأولى والأخيرة في كل ما يتعلّق بسلوكنا الأخلاقي هي للعلم وحده، أما الدين فلا ينبغي أن يتطلّع إلى شيءٍ من ذلك لأنّه يقوم في نظرِ الشيخ خالد على خرافتين:

الخرافة الأولى: هي أنّ أعمالنا التي تصدر منّا تابعة لمشيئة الله وقَدَرِهِ، وليست صادرة عن إرادتنا الحُرَّة.

الخرافة الثانية: هي وجود الشياطين التي توسوس لنا وتجتهد في إغوائنا.

 

هكذا يقول الشيخ خالد، فهو يُنكر صلاحيةَ الدينِ لأن يكون مصدراً للسلوكِ أو مُشْرِفاً على الأخلاقِ مادام يؤمن بأنَّ مشيئة الله عامةٌ تتناول أعمالَنا، ومادام يؤمن بوجودِ شياطين تؤزّنا وتنحرفُ بنا عن الغاية.

وهكذا يعدُّ الشيخُ خالد الإيمانَ بالقدرِ وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن خُرافةً من الخرافات التي أُقيمت عليها الأديان، ويدّعي أنّ ذلك يُنافي مسئوليةَ العبد عن أعمالِه مادام ليس حُرّاً،وليس في الإيمان بالقدر ما ينافي المسئولية الأخلاقية، كما قال المعتزلةُ قديماً وقلّدهم فيه الشيخ خالد، فإنّ القدرَ ليس إلا جملةَ الأسباب والمُسبِّبات التي ربط اللهُ بينها وجعل بعضها يؤدّي إلى بعضٍ، وجعل بعضها يدفع بعضاً.

 

فنحن ندفعُ الجوعَ بالأكلِ، والمرضَ بالدواءِ، ونحن نقطعُ بالسكينِ ونقتُلُ بالسيوفِ ونُحرق بالنارِ، والكلُّ مِن قَدَرِ اللهِ، وكذلك نحن نعملُ بإرادتِنا، وإرادتُنا ليست إلا حلقات في تلك السلسلةِ الطويلةِ التي هي القَدَر، فنحن نختارُ أعمالَنا ونعملُها بقُدرتِنا، ولا نكون في ذلك كلِّه خارجينَ عن قَدَر اللهِ، ولا نكون كذلك مجبورين على شيءٍ منها جبراً، من شأنه أن ينفي عنَّا المسئولية، ولذلك أضاف القرآنُ الفِعلَ للعبدِ وأَثْبَتَ للعبدِ مشيئةً في فعلِهِ كما قال تعالى: (فمَن شاءَ فليؤمِن ومن شاءَ فلْيَكفُر)، وقال: (لِمَن شاءَ منكم أن يستقيم).

 

فنحن نؤمن بالقدر ولكنّنا لا نحْتَجُّ به ولا نتَّخذَهُ ذَريعةً لإبطالِ المسئوليةِ وهدمِ التكاليفِ كما يُتوهَّم، وأما وجودُ الشيطانِ للإغواءِ والتزيينِ فهو شأنٌ من شئونِ الغيبِ، يجب أن نؤمنَ به وإن لم نرَه، كما نؤمن بوجودِ اللهِ وملائكتِهِ ونحن لم نرَ اللهَ ولا ملائكتَهُ، فليس كلُّ ما يجبُ الإيمانُ به يجبُ أن يكونَ مرئيّاً محسوساً، ولكن الشيخَ خالد العريق في الماديةِ الواقعيةِ بعد فكرة الشيطان خرافة من مخالفات القرون المنقرضة لا يجمل بالإنسانية المحتضرة أن تبقى عليها ويحمد الله أنها انقرضت من ثُلثي العالم المتحضر.

ثم يمعن الشيخ خالد في الإزراء بالدين فيقول أن التديّنَ مَظْهَرٌ كاذبٌ، وأنه كثيراً ما يكون نفاقاً خادِعاً، وأنّه عائقٌ بعِتاقِ السلوكِ، ويقِفُ نموُّهُ وتهذيبُه، وأنه غالباً ما ينشأ عن انفعالاتٍ مَرَضيّة، وأن الإنسانَ قد يصلِّي ويصومُ ويؤدِّي الواجبات الدينية وهو مشحونُ النَّفْسِ بالعُقَدِ المكبوتةِ، بل وهو مُجرَّدْ من كلِّ خُلُقٍ كريمٍ، ونحن لا ننفي أنَّ بعضَ الناس ممن لم تخالط بشاشةُ الإيمانِ قلوبَهم لا ينتفعون بما يقومونَ به من أعمالٍ صالحة، لأنها ليست صادرةٌ عن إرادةٍ خيِّرةٍ وإيمانٍ صحيح، فهي لا تُثمر ثمرتها المرجوَّة في تقويمِ الأخلاق، ولكنَّ ذلك ليس لنقصٍ في الدين نفسه، ولكنَّه انحرافٌ في هذه النفوسِ يجعلها غير قابلةٍ لتأثيرِ الدين.

 

وهل إذا كان الأعمى لا يبصرُ ضوءَ الشمسِ تكون شمسُ غيرَ طالعةٍ؟

 

وهل إذا كان المحمومُ يُشعِرُ بطعم الماءِ الزُلال مُرّاً في حلْقِهِ يكون ذلك في الواقع؟

 

لقد شهدت التجربة وسجل التاريخ أنه ليس كالدين وسيلة لتهذيب الأخلاق وتصحيح السلوك، فقد استطاع هذا الدين قبل أن يعرفَ الناسُ قواعدَ العلمِ، وقبل أن يولدَ الشيخُ خالد بمَثابةِ السنين أن يوجد جيلاً من الناسِ سيظلُّ مفْخَرَةَ البشريةِ ومعجزةَ الدَّهرِ في قوَّةِ أخلاقِهِ وسموِّ آدابِهِ، في حين عَجَزَ هذا العلمُ الذي افتُتِنَ به الشيخُ خالد في أنْ يوفِّرَ لهذه البشرية المألومة ماتنشده من راحة وطمأنينة، ولم يستطع كذلك أن يقوِّم هذه المجتمعات التي أخذت بأساليبِه وطبَّقت نظرياتَه، والشيخ خالد نفسه يعترف بذلك، فهو ينقل عن سيدةٍ أمريكيةٍ ما تُعانيهِ الولاياتُ المتحدة من فوضى جنسيَّةٍ مُبيدةٍ، وقف العلم حيالها عاجزاً مبهوراً.

 

وإن تعجّب فعجباً لهذا التناقض الذي يقع فيه هذا المؤلِّفُ، فبينما ينكر خضوع السلوك الإنساني لمشيئة الله لأنَّ ذلك يُفضي إلى الجّبْرِ ونفي المسئولية، يرى أنَّنا خاضعون في هذا السلوك إلى تركيبنا الجسمي، ويقول أن أجهزة الجسم لها على الأخلاق تأثيرٌ كبيرٌ، حتى أنَّ طول القامة وقصرها لمما يؤثّر في تفكيرنا وسلوكنا، وأنَّ العلماء ليَرَوْنَ في اكتشاف الغدّة الدِّرقية انقلاباً هائلاً في دنيا السلوكِ الإنسانيِّ، وبذلك يقعُ الشيخُ في حمأةِ الجبر وهو لا يشعر، إذ مادام السلوك نتيجةً حتميَّةً من البيئةِ والتربيةِ وأجهزةِ الجسم المختلفة: فلماذا لا يُلامُ الإنسان على خطئِه وانحرافه؟

 

ولكنّ الكاتب العبقري يريد أن يُحرِّرنا من الخضوعِ لإرادةِ الله، ليجعلنا خاضعين لهذه الغرائزَ والانفعالات المضطرمة بين جوانحنا، وهو يهدف من ذلك ةإلى نفيِ المسئولية عن المجرمين والسفّاكين، بل هو لا يرى نعتهم بهذه الألقاب فلَيسوا في نظرِه مجرمين ولا سفّاكين، ولكنهم مرضى، ومن حقِّهم علينا أن نرفق بهم، وأن لا نؤاخِذَ أحداً منهم بجُرمِهِ، أو نوقِعَ عليه ما يستحقُّه من جزاءٍ رادعٍ لقاءَ ما اقترف من إثمٍ أو خيانةٍ، بل الواجب أن نفتح لهم المصحّات النفسيّة لنعالجهم فيها.

 

وإذا فليفعل من شاء ما شاء بلا إثمٍ ولا حرج، ولنُلغِ قوانين الدولة كلّها ولتبطل شريعة الأرض والسماء، فقد اكتشف الشيخ خالد بلسم الشفاء.

 

نحن لا ننكر أن بعض مظاهر الانحراف في السلوكِ قد يكون نتيجةً لمرضٍ عضويٍّ أو لعُقدةٍ نفسيّةٍ مكبوتة، أو لسوء التربية والإهمال، ولكن جعل هذا قاعدةً عامة لتصرُّفاتِ الناس، وانتحال المعاذير للمجرمين، وتبرير خطاياهم، مِن شأنه أن يَفتح في الأمَّةِ بابَ فتنةٍ وفسادٍ كبير.

 

وأيّاً كان الدافع إلى الجريمة فهو لا يُسقطُ عن المجرمِ العِقابَ، حتى لا يتّخذ الجُرمَ عادةً، وتُصبحُ أمام حالاتٍ من الفوضى لا أوّلَ لها ولا آخر.

 

والسعادةُ عند الشيخ خالد ليست في التمسُّكِ بأهداب التقوى ولا في ممارسةِ هذه الفضائلَ التي تعارَفَ عليها الناسُ وأشادت بها الأديانُ ولكنها في الاستجابةِ لغرائزِ النَّفسِ والعملِ وفق طبيعتنا الحيّة، فإننا لم نُوهَب تلك الطبيعة إلا لتَسعد بها فاستعمالها على خيرِ الوجوهِ هو السعادةُ وهو الفضيلة، أما الفضائل التي تسبِّب ألماً وحرماناً فهي ليست جديرة بهذا الاسم فذلك العجز الذي كان يسمى ورعاً، وذلك الخنوع الذي كان يسمّى تواضعاً والانطواء الذي كان يسمى عفّة كل هاتيك الغرانيق العلي قد انقرضت وحلّت مكانها هذه الأخلاق الجديدة النابغة من طبيعة الإنسان.

 

هكذا يقول الشيخ خالد، ويقينيْ أنه لو كان أبيقور أو أرستب أو غيرهما من أصحاب مذاهب اللذَّة أحياء لما تحدَّثوا عن اللذة هذا الحديث الذي يجعلها فضيلةً، ويُعلِّق عليها كل سعادة قد يكون من الجائزِ أن يختارَ الشيخُ لنفسه ولِمُشايِعيه هذا المسلك في الحياة الذي يقوم على إرواء الغرائز وإشباعها، أمّا أنْ يدّعي أنّ هذا هو السلوك الأفضل ويتكلم عن الفضائل الحقيقة بهذا الأسلوب السّاخر فذلك ما لا نعرف له نظيراً في دنيا العَرْبَدة والاجتراء، ولكن لا عجب؛ فالشيخ خالد ينكر القِيمَ المعنويَّة، والفضائلَ النفيَّسةِ ولا يؤمنُ بأنَّ في طبيعتِنا ما هو مادّيٌ وما روحيٌّ، بل الإنسان في نظرِه ليس إلا ذلك المجموع الخليط العجيب من الأعضاء والأعصاب والدم والأمعاء والغدد، وينقل عن بعضهم، وقد سُئل عن السعادة فأجاب بأنّها :عملية هضم سليمة.

 

والشيخ خالد مع ذلك حربٌ على أن يكون الناس جميعاً مُتَّقين، ولكن عليهم قبل ذلك أنْ يُدرِكوا هذا المفهومَ الجديد الذي وضعه للتقوى، فالتقوى ليس معناها اجتناب الآثام والمحرّمات كما تصوّرها رجال الدين الأغبياء، ولكنّها : إطرق الغرائز وتوقّي كبتها حتى لا تزيد ضراوةً واستشلاءً، على أنّه ليس هناك شيءٌ اسمه خطايا أو الذنوب كما يقول الدين، فقد انتهى ذلك العهد الذي كان يُسمّى فيه الانحراف في السلوك بهذه الأسماء المُنفِرة، ولا ينبغي أن نخاف  اللهَ خوفا يُنقِصُ علينا عيشنا، وإذا كان هذا الخوف إنما ينبع من مبالغتنا في تقدير الخطيئة فلنعلم أنّ هذه الخطايا مستلزمات الطبيعة البشرية، ولا مندوحة لنا عنها، بل يجب أن يسميها خطايا ولا نرتّب عليها أيّ جزاء، وإذا كان الشعور بالخطيئة، وإنما يتولّد من اعتقادٍ أنّ هناك محرّماتٍ فلا بأس أن نرفض هذا الاعتقاد الذي يعطّل إرادتنا، ويضعها في سلاسل وأصفاد، كيف يُتاحُ لغرائِزِنا أن تتنفَّس، ولطبائعنا الحيّة الشاعرة أن تنمو وتَزدَهِر في ظلال هذا التحريم، إنَّ التربية الحديثة يجب أن تقوم على استبعاد التحريم ورفع نيره من النُّفوس ما وجد إلى ذلك سبيل.

 

والناس ليسوا في حاجةٍ إلى دينٍ يهديهم ويرشدهم إلى ما ينبغي وما لا ينبغي، فإنّ غرائزَهم تعرفُ الطريقَ الذي يجب أن تمضي فيه؛ إنّ علينا أنْ نَثق بطبيعتِنا الإنسانية، فهي وحدَها عدَّتنا في النِّضال، إنَّ غرائزَنا أعرفُ منّا بالطريق لأنّها وحتى وقبل أن ينْبَثِق فينا العقلُ كانت رائدنا العليم البصير، ولكنّنا في بلاد احتوشتها التقاليد وضللتها الأساطير مما جعلنا نقف من غرائزنا موقف الخصومة الغيبة.

 

وبعد..

فإن كان هناك من لا يزال يُحسن الظن بالشيخ خالد  ويريدُ أن يتأوّل كلامَه على ما يليق بمسلمٍ فضلاً عن عالمٍ فإنّنا نرى في كتيبه هذا الذي نحن بصدده دعوةٌ صريحة إلى التفلُّتِ من كل قيودِ الدين والأخلاق، ونبذِ كل ما تَعَارف عليه الناسُ من فضائل، والتحرر نحو ماديّةٍ طاغية لا تعرف غير المُتع البهيمية الرَّخيصة، ولكنّا نحمد الله –عز وجل- على أنّ هذا الكتيب قد ولد ميِّتاً، بعد أن أراد له صاحبه أن يميت أمّةً بأسرِها، وينحدر بها إلى هاويةٍ لا يُعرف لها قرار.

 

والآن فلنُتابع هذا الكتاب في أخلاقِه الجديدة إلى آخرِ الشوط، ولنَسمع إليه وهو يحدِّثنا عن السعادة، هذا الحديث الأبيقوري الشائق. إنّ السعادة ليست في التمسّك بأهدابِ التقوى، ولا  في ممارسةِ هذه الفضائل التي تَعَارف عليها الناسُ وأشَادَت بها الأديان، ولكن السعادة كل السعادة في الاستجابة المطلقة لغرائز النفس، وفي العمل وفق طبيعتنا الحيّة تلك الطبيعة التي لم توهب لنا إلا لِنسعَد بها.

 

وبقدرِ استثمارنا لهذه الطبيعة تجيء سعادتنا زاخرة موفورة وتلك السعادة في الفضيلة الحقّة أما هذه الفضائل التي تسبب ألماً وحِرماناً، فليست جديرة بهذا الاسم فذلك العجز الذي كان يسمى ورعاً، وذلك الخنوع الذي يسمى تواضعاً، والانطواء الذي كان يسمى عفّة، كل هاتيك غراقنيق، لعلّها قد انقرضت، وحلّت مكانها هذه الأخلاق الجديدة النابغة من طبيعة الإنسان.

 

هكذا يصوِّرُ الشيخ خالد السعادة  ذلك التصوير اللَّذي الصِرف، الذي يقوم على تحقيق رغباتِ الجسم، ويقيني أنه لو كان أبيقور أو أرسيت أو غيرهما من أصحاب مذاهب اللذة حيّاً لما تحدث عن اللذة هذا الحديث الذي يجعلها فضيلة، ويعلق عليها كل سعادة كما فعل الشيخ خالد أحد العلماء –قد يكون من الجائز أن يختار لنفسه ولمشايعيه في فلسفته هذا المسلك الذي يقوم على إرواء الغرائز وإشباع نهمها. أمّا أن يدّعي أنَّ هذا هو السلوك الأفضل ويتكلم عن الفضائل النفسيَّة بهذا الأسلوب الساخر فذلك ملا نعرف له نظيراً في دنيا العربدة والاجتراء.

 

ولكن لا عجب، فالشيخ خالد نكر القيم المعنوية والفضائل النفسية كلها، ولا يؤمن بأنَّ في طبيعتِنا ما هو مادّيٌ وما هو روحيٌّ، بل الإنسانُ في نظره ليس إلاّ ذلك الخليط العجيب من الأعضاء والأعصاب والغدد والأمعاء، وينقل عن بعضهم، وقد سئل عن السعادة بأنّها عملية هضمٍ سليمةٍ، ويُعرِّفُ هو نفسه السعادة بقوله لأن تروّض الغريزة ثم تمتطي صِهوتها وتنطلق بها في سياحةٍ بهيجةٍ عبر حياتِكَ الممتلئة الساحقة.

 

والشيخ خالد حريصٌ مع ذلك على أن يكون الناسُ جميعاً متَّقين، ولكن عليهم قبل ذلك أن يدركوا هذا المفهوم الجديد للتقوى، الذي ابتكرته عبقريَّتُه وهو: إطلاق الغريزة، وتوقّي كبتها حتى لا تزيد ضراوةً واستشلاءً. أما التقوى بمعنى اجتناب الآثام والمُحرّمات فهي من وضع رجال الدين الأغبياء! إذ ليس هناك شيء اسمه (الآثام) و (المحرمات)، فقد انتهى ذلك العهد الذي كان يسمى فيخ الانحراف في السلوكِ إثماً أو خطيئةً أو غير ذلك من الأسماء المُنفِّرة التي تقف حائلاً دون الاستمتاع بمباهِجِ الحياة ولذائِذِها، ولا ينبغي أن نخاف الله خوفاً ينغص علينا عيشنا، وإذا كان هذا الخوف إنَّما ينبع من مبالغتنا في تقديرِ الخطيئةِ، فيجب أن نعلم أنَّ هذه الخطايا ليست من الشَّفاعة كما صوّرها الدين أو تحدَّثت عنها الأخلاق، بل يجب أن لا نسمّيها خطايا، ولا أن نرتِّب عليها أي جزاء. إن الإثم الحقيقي هو أن يلازمنا شعور النَّدم على هذه الأخطاء، وأنَّ كل إنسان يشغل نفسه بعد ذنوبه وأخطاءه لا يكون إنساناً فاضلاً بالمعنى الصحيح، لأنَّ الأخلاقَ السويَّةَ تبدأ اليوم من هذا الشِّعار (ارفع رأسك .. فليس هناك ما يخجلك).

 

وإذا كان مصدر الشعوب بالخطيئة هو اعتقاد أنَّ هناك محرَّماتٌ فلا بأس أن نرفض هذا الاعتقاد الذي يُعطِّل إرادتنا ويضعها في سلاسل وأصفادٍ. بل كيف يتاح لغرائزنا أن تتنفس ولطبائعنا الحية الشاعرة أن تنمو وتزدهر في ظلال هذا التحريم. إنّ التربية الحديثة إنما تقوم على استبعاد التَّحريم ورفعِ نيره عن النفس ما وجد إلى ذلك سبيل.

 

وإذا كان الدين هو الذي أغراقنا في هذا السَّيل من المُحرَّمات، فالناس ليسوا في حاجةٍ إلى دينٍ يهديهم ويرشدهم، أما ما ينبغي ومالا ينبغي فإنّ غرائزَهم تعرِفُ الطريقَ الذي يجب أن تمضي فيه.

 

ثم يعرض الشيخ خالد بعد ذلك لمسئولية المجتمع عن أخلاقِ أفراده، ويتّهم المجتمعاتِ العربية والشرقية بأنَّها مجتمعات استغلاليّة انفصالية تروج فيها نقائص الكذب والنفاق ونقص الذات ويتحدَث عن مشاكل المجتمع الثلاث:

فأوّلها مشكلة العيش: والواجب حيالها هو إيجاد الفرص المتكافأة.


ثم مشكلة الجنس: وهذه لا تُحل في نظره إلى بإباحة الاختلاط الكلّي الذي لا يبقى معه أثر لحجاب أو حياء، وبتلقين الطلبة والطالبات المعارف الجنسية، بأن نجعل التربية الجنسية مادة أساسية في مدارسنا، ولنكن على يقين من أن الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم- يباركان هذا العمل العظيم.

 

وأخيراً يدعو الشيخ خالد إلى قيام وزارة للتربية والسلوك، ولكن . . أتدري ما مهمة هذه الوزارة الجديدة؟ أنّها تنفِّذ ذلك الدستور الذي وصفه الشيخ خالد للأخلاق والسلوك، وعلى ذلك فيجب أن يكون الشيخ خالد على رأس هذه الوزارة الجديدة حتى يضمن تنفيذ وصاياه، ومبادئه بكل دقّة وإمعان.

 

تالله ما أقبح الغرور وما أتعس مجتمعا يعيش فيه أمثال هذا الكاتب ممن قتلها حب الظهور، فراحوا يشغلون أُمَمَهُم عن مواطن الجد وحياة الكرامة بما ينفثون فيها من ترّهات لا تجني من وراءها إلى العار والشّنار.

 

------------------------------

(1)مجلة الهدي النبوي [10 / 258-260،  289-292، 321-322، 358-360].

(2)هو خالد محمد خالد ثابت، كاتب ومفكّر مصري أزهريّ، كانت له علاقة مع جماعة الإخوان المسلمين وبزعيمها حسن البنا، فاعتنق فكرهم دون الالتحاق بهم بشكل رسمي؛ ولما تخرج من الأزهر سلك طريق العلمنة ودخل من أوسع أبوابها، فكتب كتابه: "من هنا نبدأ" ونادى فيه بفصل الدين عن الدولة، ولم يُكتب لكتابه القبول، فلجأ لحيلة خبيثة، فكتب كتاباً ردّ فيه على نفسه فاشتهر الردُّ، وبدأ مشايخ الأزهر وغيرهم يرودّون عليه، ولازال الأستاذ خالد يكتب في الصحف ويؤلّف الكتب الناصرة للعلمنة والإلحاد حتى لفت انتباه الغرب، فصاروا يروّجون كتبه ويدعمونها، فلمّا رأى نشاطهم وحماسهم في إبراز كتبه أيقن أنّ القوم قد استغلّوا كتبه كسلاح لضرب أُمّته، فكتب كتابه: "الدولة في الإسلام" كردّة فعل، وأظهر تراجعه عن فكرة فصل الدين عن الدولة.

سألت فضيلة الشيخ حمد بن إبراهيم العثمان –حفظه الله- عن خالد محمد خالد فقال: (الرجل كان مع القطبيين ثم صار علمانياً، كان مع جماعة سيد قطب ثم تركهم).

(3)الفسيولوجيا: علم وظائف الأعضاء.

(4) الميتافيزيقا: علم ما وراء الطبيعة.

(5)هذا أو الطوفان صـ 13.

(6)هذا أو الطوفان صـ 15.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق