الثلاثاء، 19 أغسطس 2014

مقال (جماعة أهل الحديث في الهند..حوار مع بعضهم) للعلامة عبدالظاهر أبو السمح

الحمدلله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فهذا حوار ممتع بين سماحة الشيخ العلامة عبدالظاهر أبو السمح المصري المكي، إمام الحرم المكي ومؤسس دار الحديث بمكة، وأحد علماء أهل الحديث في الهند حول التقليد.

 

 (( جماعة أهل الحديث في الهند...حديث مع بعضهم ))

 

"في الهند جماعة عظيمة من أهل الحديث -كثرها الله تعالى ونصرها- لا تعمل إلا بالكتاب والسنة، وتنكر التقليد الأعمى أيما إنكار.

 

نشأت هذه الجماعة في الهند من أفراد قليل عددهم، فلما قاموا بالدعوة إلى العمل بالكتاب والسنة وإنكار التقليد قامت بينهم وبين أهل المذاهب والفرق خصومات شديد، ثم منازعات عنيفة، استعملت فيها العصى الغليظة والمدى وغيرها، وذهبت فيها أرواح وسالت دماء، وكانت النتيجة أن وقفوا جميعاً أمام المحاكم القانونية، فحكم لأهل الحديث على خصومهم، وأيدتهم الحكومة المحليّة بعدم التعرض لهم، فاشتد ساعدهم، وكثر عددهم، وخرج من ربقة التقليد وقيوده خلق كثير.

 

ومازالوا يكثرون حتى صاروا ألوفاً منتشرين في جميع أصقاع الهند، فنساؤهم وصغارهم لا يعرفون غير (قرآن وحديث) ولقد سمعت من بعض علماءهم في الحرم المكي ما لفظه: (إنَّ التقليد شرك في الرسالة).

وسمعت من بعضهم من يقول: (كل عبادة يعملها المقلِّدُ ناوياً فيها اتِّباع أحدٍ غيرَ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كائناً من كان فهي باطلة).

 

قلت له: إذا كان مقلِّداً لأحد الأئمة: الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة أو أحمد ابن حنبل مثلاً، ومعلومٌ أنَّ  هؤلاء الأئمة -رحمهم الله تعالى- متبعونَ للرسولِ؛ وهؤلاء المقلِّدون متّبعون للمُتَّبِعين؛ فتكون عبادتهم صحيحة، ضرورة أنّ عبادة الأئمة صحيحة.

 

فقال صاحبنا: ليس الأمر كذلك، وإنما جاءهم الفساد من قِبل النيَّة، فإنَّ الرسول –صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنما الأعمال بالنية)) وهو حديث صحيح رواه البخاري مبتدئاً به كتابه، ورواه غيره. وقد أَمرَ الناس جميعاً أمراً يعُم الصحابة وغيرهم إلى يوم القيامة باتّباع محمد –صلى الله عليه وسلم-، لا فرق في ذلك بين أبي بكر الصديق وبين غيره.

والمقلِّد حين يتوضأ وحين يصلي يتّبعُ غير الرسول –صلى الله عليه وسلم- وينوي تقليد غيره ممن لم يؤمّر باتّباعه، وهذا هو السِّر في بُعدِ الناس عن الرسول –صلى الله عليه وسلم-، ووقوع الوحشة في في قلوبهم من اتباعه رأساً؛ وذلك مِصداقُ قوله تعالى: ((فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم))، وأي فتنةٍ أعظم من نِسيان الرسول –صلى الله عليه وسلم- وتركهِ واتّباعِ غيره ممّن ليس بمعصوم؟ مع أنَّ الإنسانَ حين يوضع في قبرِهِ، ويُسئل يقال له: ((من هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فأما المؤمن فيقول: هو محمد، هو رسول الله، آمنت به اتّبعته، وأما الكافر أو المنافق فيقول: هاه، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته)) وهذا هو التقليد الأعمى بعينه.

فانظر كيف أجاب المًتَّبِعُ لرسول الله–صلى الله عليه وسلم- وكيف أجاب المُقلِّد تعرف الفرق بين الاتباع والتقليد.

 

فقلت له: ما تقول في قوله تعالى: ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))، وقوله تعالى: ((ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً))، أليس في هذا ثبوت التقليد؟

 

قال: لا.

 

قلت: كيف لا والله يأمر الجاهل أن يسأل أهل الذكر؟ وفي الآية الثانية أنَّ من يتّبع غير سبيل المؤمنين يولِّه ما تولى ويُصلِهِ جهنم، والمُقلِّد متَّبِعٌ سبيل المؤمنين في الجملة.

 

قال: لا.

 

قلت: إذاً اشرح لي الآيتين وبيّن لي ما عندك فيهما.

 

قال: أما قوله تعالى: ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))فمعناه:

أنَّ على الجاهل شيئاً من العلم أن يسأل عنه أهل العلم، أي عليه أن يتعلَّم ليَعلم، وهذا الذي نريده، ولا ريب أنّ السؤال عن العلم حتى يعلم يناقض التقليد، ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((ألا سألوا إذا لم يعلموا إنما دواء العي –الجهل- السؤال)).

فالآية الأولى تحثُّ الجاهل على التعلم، ليخرج من ظلمة التقليد إلى نور العلم.

والثانية تفيد أن سبيل المؤمنين هو اتّباع الرسول –صلى الله عليه وسلم- وعدم مشاقَّتِه، والمقلد مخالفٌ سبيل المؤمنين، مشاقٍّ للرسول، ألا ترى أنَّ المقلد يعمل عملاً في الصلاة –مثلا- كارسال يديه و وضعها على صدره؛ فتُنْكِرُ عليه ذلك فيقول: مذهبي مالكي أو أنا على مذهب مالك، فتذْكر له حديثاً نبوياً صحيحاً يرويه مالك نفسه في موطَّئِة وغيره من أئمة الحديث، فلا يلتفت إليك، ولا يأخذ إلا بقبول علمائه المقلدين.

ألا يصير مشاقَّا للرسول حينئذ؟ مراغماً لسُنَّته، مؤثِّراً عليها قول الغير؟ وكفى بهذا إثماً كبيراً.

 

قلت له: ما العمل إذاً في العوام والنساء، وكيف يتّبعون الرسول وهم لا يعرفون العربية، وخصوصاً نساؤكم وعوامكم الأعاجم؟

 

قال: إننا نُعلِّم نساءنا العربية، ونُقرِّئهن كتب السنة الصحيحة، وكذلك أولادنا، وأما عوامنا فقد اعتادوا أن يسألونا عن حكم الله ورسوله، واعتدنا ولله الحمد ألاّ نجيبهمإلا بالنصوص القرآنية والاحاديث النبوية، فإنْ لم نَجِد بحثنا فتاوى الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين.

 

قلت: قد رجعتم إلى التقليد.

 

قال: لا، لأنّنا ننظر مآخذ الأئمة وترجيح ما يشهد له الدليل، وهذا نادر.

 

قلت: ألا يكون العامّي الذي يأخذ باجتهادك وترجيحك مقلداً لك في هذه الحال، مفارقاً هدي الرسول –صلى الله عليه وسلم-؟

 

قال: لا، لأنّ العامي متّبع رسول الله في عقائدِه وعبادته؛ وكل ما يلزم العوام من الدين ظاهرٌ واضح بالنصوص، وإنّما تُعرَض بعض المسائل، فالواجب على العامِّي أو من عُرِضَ له شيءٌ يجهله من أمر دينه أن يسأل العالمَ به، كما أنّه إذا أراد أمراً دنيوياً لا يُحْسِنه يبحث عمّن يحسنه ليعمله له كبناء بيت أو نحو ذلك. فالدين أهم عند المسلم من أمر الدنيا؛ فهو يبحث عن العالِم بالكتاب والسنة ليسأله، وفي هذا اجتهاد منه؛ وبسؤالِ العالم عن حكم الله ورسوله صار معذرواً. والعالِم إذا اجتهد في البحث عن الصواب وأصابه فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر بما بذل من جهد.

 

قلت: أليس من الصعب جداً أن يتعلم نساؤكم العربية، ثم قراءة السنة وفهمها، والقرآن تفسيره؟

 

قال: إن عندنا مصاحف عليها تفسيرها بالأردية والفارسية، وكذلك كتب السنة، فاللوتي لا يعرفن العربية يقرأْنَ الترجمة فيفقهنَ معنى قول الله وقول رسوله، وهُنّ يُعلِّمْنَ بناتَهن وأولادهن عملياً، وليس عندنا معشر أهل الحديث إلا قال الله، قال رسوله، أو كذا فعل الرسول، كذا هدي الرسول –صلى الله عليه وسلم-، كما يدور ذكر المذهب على لسان المقلّدين.

ثم قال: وإني لأعجب من مصر وهي كما يقولون: (عروس الشرق وزعيمة الإسلام، وفيها الجامعة الأزهرية) وليس لأهل الحديث فيها ذكر ولا لهم وجود.

 

قلت له: إن في الأزهر كثيراً من أهل الحديث السلفيين وأنصار السنة العاملين، ولهم مجلة تدعى (الهدي النبوي) غير أنَّهم بالنسبة لجماعة أهل الحديث في الهند قليل، وسيكثرون وتكون لهم مدارس لتعليم القرآن والسنة خاصة -إن شاء الله-، وإنّه يوجد في مصر في كل بلد وقرية منها جماعة سلفيون يحبون السنة ويعملون بها.

 

قال: ولكن هل بينهم أحد من أهل العلم يقرأ لهم كتب السنة بنظام؟

 

قلت: هذا لما يوجد بعدُ، ولكن في مصر أفذاذ علماء الحديث.

 

قال: هل تعرف أحداً منهم؟

 

قلت:نعم أعرف الأستاذ العلامة القاضي المحقق الشيخ أحمد محمد شاكر، والأستاذ العلامة رئيس جماعة أنصار السنة ورئيس تحرير الهدي النبوي الشيخ محمد حامد الفقي، والعلامة المفضال الشيخ عبدربه مفتاح رئيس الوعاظ والإرشاد، والأستاذ العالم الواعظ عبدالوهاب العيسوي، وأعرف غيرهم كثيرين ولله الحمد، لا تحضرني أسماؤهم الآن.

 

وحسبك أنّهم قضوا على وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد، وقرءوا قانوناً يعمل به الآن في الحكومة بعدن وقوعها: وهو خلاف المذاهب الأربعة.

 

والآن في مصر نهضة علميّة قوية مجددة تريد سَنَّ نظا من الشريعة الغرّاء غير مقيّدٍ بمذهبٍ خاص.

 

أما يكفيك هذا كله في أنَّ بمصرَ جماعات كثيرة من أهل الحديث والفكر المستقل؟ وشيخهم الأكبر شيخ الجامع الأزهر إمامهم يشجعهم، وينفخ فيهم روح التقدّم والاستقلال الفكري-اقرأ خطبه الغرّاء ترَ ما يسُرُّك.

 

وانتهى بنا الحديث إلى هنا إذ قامت الصلاة فوعدته إلى الملتقى.

 

أبو السمح"

 

] مجلة الهدي النبوي / العدد الخامس لعام 1356هـ / صـ25-29 [ .

 

 

إضــافة رد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق