السبت، 22 نوفمبر 2014

فوائد منتقاة من محاضرة الشيخ السندي: جوانب مشرقة من حياة الشيخ محمد أمان الجامي

-الشيخ محمد أمان الجامي لم يكن معلماً فحسب بل كان معلماً ووالداً.

-ما رأيت أحداً من مشايخ الحرم له أكثر من درس في الحرم مثل الشيخ محمد، فكانت دروسه بعد الفجر وبعد العصر وبعد العشاء.

-كان يبسط المعلومة ويسهلها ولا يتقعّر بالكلام، بل يأتي بالخلاصة، وبشكل واضح.

-كان يعطي كل صنف من الطلاب ما يناسبه، ويكرر المعلومة أكثر من مرة للطالب لتصل إلى الأذهان، وكان له أسلوب خاص في الأصول الثلاثة يختلف عن التدمرية يراعي الأعمار والأفهام.

-كان أسلوب الشيخ في الشرح والتدريس محببا للطالب بحيث يعلق الطالب معه في الدرس.

-سمته وتواضعه: كل من عرف الشيخ محمد أمان، يعلم أنه كان زاهدا في ملبسه ومأكله وسيارته، بعيداً عن ترف الدنيا، لا يخالط الكبراء والمترفين.

-كان يذهب من البيت والحرم والجامعة وهكذا، تدور حياته حول هذا تقريبا.

-كان يلبس (بشت لونه بيج بدون زري)، كان بيته صغيرا، ومجلسه ضيقاً.

-كان الشيخ يسلم على الكبير والصغير، مع أنه ذا هيبة، يهابه طلابه.

-كانت له ابتسامة جميلة لا تتفارقه.

-تزوج الشيخ محمد ثلاث مرات، وبلغني أنه كان تعرض عليه العروس، لما مر جازان وعلّم هناك أحبه الناس وزوجوه من تلك المنطقة، وتزوج أيضا من أشراف مكة، والثالثة من الحبشة، كل ذلك لما كان عنده من أخلاقٍ حسنة حببت إليه الناس.

-كان يؤم الناس في مسجد الحي أحياناً، فكان إذا قرأ خواتيم الحشر لا يتمالك نفسه، وكانت صلاته في المسجد النبوي في الغالب.

-هو من القلائل الذين يصدعون بالحق، فكان يذكر الأشاعرة والصوفية وهو يدرس في الحرم.

-كان داهيةً لا تُعرف له عبارة نابية خارجة عن السياق، يتكلم ويناقش بالدليل، ويرد بهدوء واعتدال.

-(الحكم على الشيء فرع عن تصوره) رد فيه على أحد الأشاعرة بالحجة والدليل ولم يرد بأسلوب منفر ولا قسوة.

-حريصاً على أن يكون طلابه طلاباً للعلم، ففي أزمة الخليج اشتعلت الخلافات المنهجية، فكان يقول لطلابه: اتركوا الخلافات للمشايخ وانشغلوا أنتم بطلب العلم.

-كان يعرف متى يتكلم ومتى يسمع، ويعرف ما يقول في المجالس العامة والخاصة، لا كبعض الناس الذين لا يزنون أقوالهم ولا يراعون المقامات فيحدثون الفتن.

-أستطيع أن ألخص أن الشيخ محمد امان الجامي كان ابن باز ولكن مصغر.

-كان متاثراً بالشيخ ابن باز ويرى هذا في سمته وعلمه.

-حماسته للدعوة: كان يخرج الأسئلة من جيبه ويقرأها، وأسألته: ما حكم الاستغاثة بغير الله، والتوسل، وغيرها من مسائل التوحيد.

-أوصى ابنه قبل أن يتوفى: قل للمشايخ عليهم بالدعوة إلى التوحيد ... فكانت جلّ همه.

-كان دائما يوصي الطلاب أن ينتشروا بالمسجد النبوي في المواسم (الحج ورمضان وغيرها) ويلاطفون الناس ويطرحون عليهم أسئلة في التوحيد ويعلمونهم.

-رعاية الشيخ لطلابه: كان أبا حنونا وأبا متميزا، إذا عاتبك عاتبك بأبوّة.

-كنت مرة أمشي بجانب الشيخ ومعي أخي الشيخ محمد بن بخيت الحجيلي -حفظه الله-، فقال الشيخ محمد بخيت أنه قد انتهى من الدراسة وسيسافر، فالتفت إلي وقال: وانت؟ فقلت له: أنا جالس يا شيخ بقيت لي سنة، فقال الشيخ:
لا مرحبا بغد ولا أهلا به .. ان كان تفريق الأحبة في غد

-دعاني مرة للغداء، فتأخرت عن الموعد، فاتصل بي وقال: (عجّل لماذا تأخرت) وانا من أصغر طلابه.

-يحرص على المنهجية، إذا رأى طالباً صغيراً يقول له: هذا الكتاب كبير..قُم.

-عاتبني الشيخ مرة لعدم حضوري شرحه على نبيل الأوطار للشوكاني، وشد علي، وكان في ذهني أن الكتاب هذا أرجئه إلى وقت لاحق لمنهجية عندي...وليتني حضرت ولو رجع بي الزمان لحضرت عنده.

-في أحد مناقشات الدراسات العليا التي حضرتها التي شارك فيها الشيخ، شد أحد المناقشين على الطالب، وهذه في غالب المناقشات، فلما جاء دور الشيخ محمد أمان هدأ الوضع وكأنه قد سكب الماء على الطالب.

-زرته مرة في الرياض انا والشيخ الحجيلي، فدعانا الشيخ للعشاء في الفندق الذي سكن فيه، فأخذ يحدثنا عن طفولته وما كان يراه من الصوفية، فلما انتهينا وقبل أن ننصرف أعطانا الشيخ فاكهة وقال: خذوها، فاعتذرنا لشيخ عن أخذها فقال: خذوها فأنتم لم تعرفوا معنى الجوع والفقر خذوها، فوضعها في كيس وأخذناها.

-من الأمور التي لا يعلمها الكثير عنا لشيخ: حرصه على متابعة أحوال المسلمين في الخارج.

-كان الشيخ ذا خبرة في معرفة الجماعات في السابق، وكنا يحذر طلابه من التحزبات والجماعات ويدعونا دائما للرفق.

-كان يدعو إلى اجتماع الكلمة والنزعات والشقاقات.

-في أزمة الخليج خرجت فتوى لبعض العلماء في مسألة الاستعانة بالكفار، واعني بالعلماء هنا الراسخين في العلم، فكان الشيخ يقول: "احذروا أن تتكلموا في الشيخ، والرد يكون للعلماء" وهذا من الامتثال لقوله تعالى: ((لا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)).

-هناك لجنة يرأسها الشيخ صالح السحيمي لخدمة تراث الشيخ محمد أمان.

-الشيخ محمد أمان انتدب لمناظرة محمود طه السوداني، وقد أقام عليه الحجة وكانت تلك المناظرة سبب القصاص منه.

-الشيخ درس المذهب الأشعري وعرفه عن قرب.

-من أراد أن يطلب العقيدة لابد أن يقطع له فيما أرى.

-التدرج في العقيدة أمر مهم، وتكون بأربع طرق:
1-الحضور عند المشايخ.
2-دراسة المتون.
3-القراءة المجردة للكتب.
4-البحث في المسائل العقدية.

-إن أردت الاختصار فإني أعدوك لقراءة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.

-الكتب التي أقول دائما لإخواني أن يعتنوا بها ويكررون النظر فيها، وأبشروا بالخيرالكثير:
1-تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبدالله.
2-شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز.
اذا اتقنتها تنتقل إلى:
3-متصر الصواعق: لتعطيك ملكة الرد على المخالين، أصول مذاهب المخالفين لاسيما في الصفات.
4-طريق الهجرتين. ويحتاج إلى تلخيص.


هذي بعض الفوائد التي دونتها، ولا تغني عن الاستماع للمحاضرة فهي قيمة .. وجزى الله شيخنا على ما قدم خير الجزاء

تصور لا يحترمون ابن باز (مزيدة) للشيخ عبدالعزيز ندى العتيبي

▫(تصوّر... لا يحترمون ابن باز؟!)


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعدُ: 

فقد كتب لنا بعض أخواننا؛ طلاب العلم بعد مغادرته لإحدى المجموعات التي قام بتأسيسها، رغبة التأليف بين أفرادها، وجمع كلمة من فيها على مذاكرة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهدف سامٍ لمعرفة القواعد، والتمكن من أصول علوم الحديث؛ ولكن الشيخ حفظه الله - كان حسن النية بمن جمع - وقد فوجئ بعد مضي زمن، ومع تتبعه لألفاظ ومفردات ومشاركات بعض منسوبي تلك المجموعة؛ وجد أنهم مصابون بداء المخالفة والاعتداد بالنفس - لأن مسلكهم لفرط غرابته وشذوذه، مجهول عند غيرهم من أهل العلم، ولبّس عليهم إبليس أن ذلك التفرد منهم [ميزة وتفوق] عن باقي علماء الأمة، وقد كان هذا  الابتلاء بعدم الاهتمام بما كان عليه العلماء الاكابر، (أمثال ابن باز ومعاصريه) بداية الهلكة؛ 

فقال الشيخ صاحبنا مستغرباً : " تَصَوّر... لا يحترمون ابن باز؟! "


فما كان منا إلا الجواب والمشاركة بتلك الكلمات ولعلها يتبعها توضيح وبيان ..

قلت (أبو عمر): 

أولا: إن هذا الأمر غير مستغرب على أؤلئك؛ فإن غالب المشاركين في تلك المجموعة كانوا على سبيل مبتدع، وطريقة محدثة؛ وهي التي عُرفت واشتهرت بين المشتغلين بالسنة وعلوم الحديث بـ( طريقة حمزة المليباري)، رغم أن أستاذه - محمد نور سيف - هو باعث تلك البدعة، وعن طريق التلميذ المليباري حامل الرسالة، تأثر بها بعض العرب، وكانوا سبب انتشارها والابتلاء بما فيها، لثقة بعض طلاب العلم بمن حملها عن المليباري من أبناء العرب الجدد .


ثانيا: قال الشيخ: [ تصوّر لا يحترمون ابن باز ؟! ]اهـ


قلت: بل إنهم يجهلون العلماء المعاصرين كافة، فهم لا يعرفون إلا ذلكم الباحث الهندي (ليس تقليلاً من شأنه، ولكن تعريفا به)؛ أعني: حمزة المليباري ، ولولا ما حدث من تلقف بعض أبناء العربية لرأيه، والخروج بهذا المنهج، وذلكم الشذوذ لما انتشر مذهبه، ومذهب أستاذه - محمد نور سيف - من قبله، الذي لقّنَه هذا الانحراف عن مسالك العلماء، وأساطين الفن من أهل الحديث. 


فحصل تأثراً - [ولكل ساقطة لاقطة] - بهذا المنهج المُبتدع من بعض العرب؛ أمثال السعد واللاحم والعوني وغيرهم ، وكذلك تأثر به نفر من الباحثين؛ أعني: أتباع حزب جماعة الإخوان المسلمين (العرب) نكاية بأهل الحديث (السلفيين) وطاروا به، بل صاحوا به، وكأنهم - فيما زعموا - قد وجدوا ضالتهم في إيقاف (( المد السني، والتفوق الجبار للعَلَم الجبل المجدد الألباني ))!! .


(أسد السنة العلامة الألباني)


• لقد قُتل المخالفون بعجزهم، وما وجدوه من آلم المعاناة وخيبة الأمل عندما سلكوا خلاف نهج الألباني، وأبوا إلا مجاراته، وإدعاء انحراف طريقته، - فقد أصيبوا بشلل تمكن من العقول والأذهان - أن يكونوا قطرة في بحر جهد العلامة، أسد السنة، ناصر الدين الألباني..


نعم إخواني : هذه عين الحقيقة، ودع عنك ما أعلنه المخالفون من شعارات زائفة، ظاهرها الرحمة، وباطنها هدم للسنة، تَتَستّر خلف اصطلاحات محدثة؛ كـ( ادعاء) تنوع المدارس، واختلاف المناهج بين المتقدمين والمتأخرين - زعموا -؟!.  


اعلموا اخواننا إن ذلكم العجز عن مجاراة العلامة الألباني، جعلهم في حالة توتر واضطراب، وطلب لمخالفة الألباني؛ بحثا عن مخارج ومغارات يلجوها!  

فما كان منهم إلا الدخول في جحور مظلمة؛ طلبا لمجاراته، إن لم يستطيعوا طمس علومه، أوحجب نور شمس جهوده، 

• لقد أتعب مجدد علوم الحديث في عصرنا المحدث الألباني من بعده، وأغاض كل حاسد وحاقد من أتباع فرق المبتدعة وغيرهم؛ لقد أتعبهم وكم أغاظهم - رحم الله الألباني - حيا وميتا .


( ابن باز وابن عثيمين والدويش والوادعي عرفوا فضله)


والعلامة الألباني عرف فضله أكابر علماء عصرنا، فهذا شيخ الإسلام - في هذا الزمان، ومفتي الدنيا في عصرنا بلا منازع - الإمام ابن باز، لقد كان - رحمه الله - يحبه ويجله، ويثق به ويحيل إليه، ومثله فقيه العصر، ودرة الزمان ابن عثيمين، وكذلك كان العلم العابد الفذ عبد الله الدويش، ومحي السنة في القطر اليماني مقبل بن هادي الوادعي وغيرهم من أهل العلم، كانوا يجلون العلامة الالباني، ولم نقف منهم على من بدع طريقته أو سخر من جهوده، كما فعل أتباع المليباري، ومن غرّه  مسلكهم الشاذ ونهجهم المنحرف عن طريقة أهل السنة والحديث، والله المستعان… 


ولا يخفى على من له صلة بالعلم، أن أهل العلم كافة قد سلّموا له بالتجديد والريادة في هذا الفن؛ خاصة من له عناية ومعرفة بعلوم الحديث؛ رحم الله الأموات، وغفر للأحياء منهم. 


ومما شغبوا به على طريقة أهل الحديث، 

مقالة شاذة: (ادعاء بطلان الحكم على الإسناد): فكان أن أصّلوا منهجاً يُمثل بعض عبث وشغب أتباع هذه المدرسةالمحدثة..  


•المقالة: عدم الحكم على الإسناد منفردا، ويرون هذا العمل غشاً للأمة… 


فقلنا: (الحكم على الإسناد صناعة حديثية أصيله)


وسأذكر اختصاراً بعض الأمثلة لكي نبيّن بطلان هذه الطريقة منهم، والجهل بما عليه الأوائل؛ هداهم الله للحق عاجلاً غير آجل، ووفقهم لمنهج علماء الامة من لدن القرن الأول حتى يومنا هذا… 


• مثاله الأول: 

لقد روى الدارقطني في "سننه" (196/1) قال: حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا سليمان بن شعيب بمصر، حدثنا بشر بن بكر، حدثنا موسى بن علي، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، قال: " خرجت من الشام إلى المدينة يوم الجمعة، فدخلت المدينة يوم الجمعة، ودخلت على عمر بن الخطاب، فقال: متى أولجت خفيك في رجليك ؟ قلت: يوم الجمعة، قال: فهل نزعتهما ؟ قلت: لا ، قال: أصبت السنة . 

قال أبو بكر: هذا حديث غريب . 

قال أبو الحسن: وهو صحيح الإسناد . 



• قلت (عبد العزيز): 

- لقد حَكَم الدارقطني على الإسناد بقوله: ( صحيح الإسناد) .

- ولا يلزم من ذلك حكم الدارقطني بصحة المتن .

- ولذا وجدناه تكلم على طرقه ورجاله في كتابه "العلل" (111/ 2)


ملاحظات: 

أولا: طرداً لما قاله بعض الباحثين المعاصرين، وجعله  من تلك الطريقة مسلكاً للورع في هذا الفن!!   

فإننا نجد حكم الدارقطني هذا، وقوله: (صحيح الإسناد). فيه غش للأمة، وبعيد عن (الورع)؛ لأن حكمه على ظاهر الإسناد . 

وهذا مخالف لما اصطلحوا على تسميته بمدرسة الظاهر !!


ثانيا: هل خالف الدارقطني مدرسة التعليل في "سننه" بحكمه على هذا الإسناد، وغيره في مواضع أخرى ؟. 


ثالثا: هل من حكم على طريق أو إسناد ما؛ وقال : 

إسناد حسن،

إسناد جيد،

إسناد صالح ،

وإسناد صحيح ، 

وصحيح الإسناد، 

قد تابع الدارقطني في أحكامه الملحقة بـ "السنن"، أم خالفه ؟! .


 رابعاً : هل من حكم على طريق وقال : 

إسناد حسن، 

وإسناد صحيح ، 

وصحيح الإسناد،

قد غش المسلمين، وغَرّر بهم ؟! .


والمثال الثاني: 

 روى النسائي في "السنن الكبرى" (6011) قال: أخبرنا عبيد الله بن سعيد، قال: حدثنا عبد الله بن الحارث، عن سيف هو ابن سليمان، عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مه الشاهد. 

- قال لنا أبوعبدالرحمن: هذا إسناد جيد، وسيف ثقة، وقيس ثقة. 

- وقال يحيى بن سعيد القطان: سيف ثقة .


• قلت: وهذا أبو عبد الرحمن النسائي يحكم على إسناد منفرد بقوله: 

(هذا إسناد جيد )، وقد تكلم على هذا الاسناد البخاري، وطعن فيه غيره أيضا.. 


ولقد رواه مسلم في "صحيحه" (3/ 1712)  قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، قالا : حدثنا زيد وهو ابن حباب، حدثني سيف بن سليمان، أخبرني قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد .


[ ولكن أعله البخاري بالانقطاع ]


فقال الترمذي في كتابه "العلل" (361): سألت محمداً عن هذا الحديث ؟

فقال: عمرو بن دينار لم يسمع عندي من ابن عباس هذا الحديث .اهـ 

ولذا لم يخرجه في كتابه "الصحيح".


والمثال الثالث :

روى أبوداود في "سننه" (1173) قال: حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا خالد بن نزار، حدثني القاسم بن مبرور، عن يونس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر، فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبر صلى الله عليه وسلم، وحمد الله عز وجل، ثم قال: " إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبَّان زمانه عنكم، وقد أمركم الله عز وجل أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: { الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين}، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين، ثم رفع يديه، فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة، فرعدت، وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله ، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن، ضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فقال:  " أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله".  

- قال أبو داود: وهذا حديث غريب إسناده جيد، أهل المدينة يقرءون {ملك يوم الدين}، وإن هذا الحديث حجة لهم. 


قلت: قول أبي داود: وهذا (حديث غريب، إسناده جيد) 


حجة على المعاصرين ممن خالف طريقة أهل الحديث على تفاوت طبقاتهم، وهل غرّر أبوداود عوامالمسلمين، وغش الأمة في كتابه ؟! ..


ونتابع…

 

خامسا: هل الترمذي والدارقطني النسائي وأبوداود وغيرهم من الأئمة قد غرروا بالأمة في حكمهم على آحاد الطرق بقولهم : (إسناد جيد، وإسناد صحيح) وهل في ذلك العمل غش للقارئ؟!


سادسا: ينبغي أن يُعلم بأن فن أهل الحديث وصنعتهم ، لايُراعَى فيها عوام الناس ، بل إنه عمل دقيق لا يُفقه بسهولة؛ إلا من وهبه عمره، وأعطاه أصل وقته لا فضل عمره، ولذا فمن المعيب أن يدّعي من له علاقة بعلوم الحديث، أن العوام مخاطبون باصطلاحات هذا الفن، بل حتى المتخصصين في فنون غريبة عنه، هم والعوام سواء في ذلك، فليس العامي مطالب بفهم إصطلاحات وعبارات أهل الحديث، وليس المُحدّث مُلزم بشرح ألفاظه للعوام وغيرهم، وهو غير مُلزم بأفهامهم، فالواجب عليهم مراجعة من له علم بهذا الفن؛ ليقف على صحيح الحديث من سقيمة. 


سابعاً: إن ألفاظ المحدثين واصطلاحاتهم خاصة بمن له علاقة بهذا الفن، وعلى اتصال بأهله وعناية بمعانيه .


ثامنا:  ينبغي ألا يُنكر على من قال:   

اسناد حسن ، إسناد جيد، إسناد صحيح ..في الحكم على طريق أو إسناد ما ، فقد استعمله علماء الأمة على اختلاف الطبقات والأزمنة ..


نسأل التوفيق والسداد، وجمع كلمة الأمة؛ على الكتاب والسنة، بفهم سلف الأمة 

والحمد لله رب العالمين ..


كتبه. عبد العزيز بن ندى العتيبي

الخميس، 20 نوفمبر 2014

وصية أهل العلم بالتآلف .. بين التنظير والتطبيق

الحمدلله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فهذا سؤالٌ يرد على الأذهان:

(كيف نعمل بوصية أهل العلم الكبار
بترك التحذير بين طلبة العلم السلفيين فيما بينهم، والقيل والقال ، والتهاجر والتشاحن والتباغض.

فلو فعلنا ذلك لقيل لنا: أنتم مميعة، حزبية، تداهنون أهل بدع وغيرها من التهم) ؟

والجواب على هذا السؤال :-

أولاً: قال تعالى: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا﴾.

فالعمل عند حصول النزاع في أمر من أمور الدين الرجوع إلى الوحي المبين، وعرض أقوال الرجال على كلام الله ورسول رب العالمين، فما وافقهما كان العدول عنه ضلال وابتداع في الدين.

ولابد استحضار قاعدة إمام دار الهجرة -رحمه الله- "كل يؤخذ من قوله ويرد إلا النبيﷺ"، فكلام العلماء ليس وحياً منزلاً، بل هو قابلٌ للأخد والرد، ومحتمل للصواب والبطلان...إذ هم بشر غير معصومين!

ثانياً: إذا أشكل الترجيح في أمر شرعي لابد من حسم المسألة بالرجوع لأهل العلم الذين عرفوا بالعلم والصلاح، قال تعالى:﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾، وقال سبحانه:﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾.

ثالثاً: بناءً على ما تقدم، فإن الرجوع للمسائل التي قد تجر أصحابها للفتن كمسائل التبديع، وما يتبعها من هجر وتحذير...يرجع فيها لكبار العلماء الذين عرفوا بسلامة المنهج، ورجحان العقل، وصفاء الخاطر، والورع والتقوى، والحلم والأناة، والتوسط في الجرح والتعديل.

رابعاً: إذا بدع شيخٌ شيخاً معروفاً بصلاحه وسلامة عقيدته ومنهجه، فعليه أن يأتي بجرح واضح مفصل، لا مجال للشك فيه والاحتمال، وإن أجملَ رُدّ جرحُه.

قال الإمام أحمد: (كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه) [تهذيب التهذيب ٣/ ٢٧٣].

وقال الإمام ابن عبدالبر: (والصحيح في هذا ان من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم: لم يلتفت فيه إلى قول أحدٍ إلا أن يأتي في جرحته ببيِّنة عادلة؛ تصح بها جرحته على طريق الشهادات) [جامع بيان العلم وفضله ٢ /١٨٧].

خامساً: ينبغي أن ينتبه طالب العلم لأمر مهم في المسألة، وهو أن بعض المشايخ قد تغلبه الغيرة أو الحسد أو حظوظ النفس -لخلاف شخصي بينه وبين شيخ- أو الوهم، أو غيرها من الأمور التي تعتري بني البشر، وفتنة الإمام البخاري مع الشيخه الذهلي أكبر شاهد على ذلك. 

فلهذا حذر العلماء الربانيين من مسلك (الإلزام باجتهاد بعض المشايخ في الجرح والتعديل وموالاة من وافقهم ومعاداة من خالفهم) كسماحة المفتي عبدالعزيز آل الشيخ والعلامة صالح الفوزان وشيخنا العلامة عبدالمحسن العباد وغيرهم.

سادساً: وهنا سؤالٌ صريح:
مَن مِن المشغّبين يلزم نفسه وغيره بكلام الشيخ الفوزان في مسائل التبديع؟

أو بعبارة أخرى: ما وقْع كلام العلامة الفوزان في نفوس أولئك الإخوة المعنيين حين يأمر طلبة العلم بالكف عن التفرق والتهاجر والتحذير؟

فإن سمحوا لنا الإخوة باتباعه، فجزاهم الله خيرا، وإن أبوا إلا أن نقلد الشيخ فلانا وفلانا ونهمش كلام الفوزان (في هذه النوازل!) فاعلموا أنهم ينطقون عن جهلٍ وهوى، وأنهم واقعون في وحل الحزبية ويرتعون في مستنقعها من حيث يشعرون أو لا يشعرون!!

فهم يدْعون الناس للتمسك بفتوى الشيخ صالح الفوزان وهيئة كبار العلماء في نوازل الجهاد والدماء والخروج و..الخ، وفي الوقت نفسه لايرون لكلامهم في مسائل التبديع وزناً.

وكلامي هذا ليس عن تخمين وإنشاء، بل حقيقة مرة وواقع أليم نراه ممن ابتلاهم الله بداء التقليد...وإلا أخبروني إذا قال المفتي أو الفوزان: (اتركوا كلام فلان في فلان) هل سيكون لكلامهما تأثير في الساحة ؟!
الجواب يعرفه الجميع

سابعاً: إن من أبرز ملامح أهل السنة والجماعة أن دعوتهم تجمع ولا تفرق.

فبالتالي ينبغي لطلاب العلم الانشغال بالعلم، والتفقه في الدين، فمتى طلبتَ العلم عرفت الحق من الباطل.

ثامناً: إن السلامة لا يعدلها شيء، فاترك البحث والتفتيش عن كلام العلماء فيما بينهم، واحفظ لكل عالمِ سُنة قدره، ولا تخض في كل فتنة، فلستَ مطالباً بتسجيل مواقفك في كل فتنة بين السلفيين، وليتق الله من يلزم إخوانه بذلك إذ هو تكليفٌ بما لا يطاق.

تاسعاً: أوصي نفسي وإخواني بالتمسك بوصية الشيخ صالح الفوزان وغيره بترك التشاحن والتباغض بين السلفيين، وترك التهاجر والتنافر الذي بينهم لاسيما الذين في بلاد الكفر، فهم أحوج منا إلى اجتماع الكلمة وتوحيد الصف.

اسأل الله أن يعز السنة وأهلها، وأن يجمع كلمة مشايخنا وعلمائنا، إنه سميع الدعاء.

والحمدلله رب العالمين

الاثنين، 17 نوفمبر 2014

كيف نواجه الإلحاد ؟! لفضيلة الشيخ / د. صالح بن عبدالعزيز سندي -حفظه الله-

((الحمدلله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)) والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فإن الأدلةَ العقلية والنقلية والحسَ والفطرة شاهدة بأنَّ ربنا -تبارك وتعالى- هو المتفرد في ربوبيته، المتوحد في ألوهيته، عز سلطانه، وعظم جلاله، وعلا شأنه، ونفذ أمره، وكمل بهاؤه.

فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، فسبحان من شهدت بوحدانيته المخلوقات، وخشعت لعظمته الكائنات، وافتقرت إليه جميع البَرِيّات، فلا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

أيها الإخوة الكرام...
إنّ وجودَ الباري -تبارك وتعالى- وربوبيته وألوهيته قضيةٌ هي أظهر من كل شيء على الإطلاق، بل هي أظهر للبصائر من الشمس للأبصار، وأَبيَن للعقول من كل ما تعقله وتقر بوجوده، فما ينكر هذا الأمر إلا مكابرٌ بلسانه وقلبه وعقله، وفطرته تكذبه !

إنّ كل ما تراه بعينك أو تسمعه بأذنك أو تعقله بقلبك وإنّ كل ما نالته حاسة من حواسك فهو دليل عليه -تبارك وتعالى- فطرق العلم بالباري تبارك وتعالى- ضرورية ليس فيها أدنى شك، ولذا قالت الرسل لأممهم: ((أفي الله شك فاطر السماوات والأرض))؟ فخاطَبوهم مخاطبةَ من لا ينبغي له أن يخطر له شكٌ ما في وجوده سبحانه وتعالى-، بل في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته.

ومع كون هذه القضية أظهر القضايا وأوضحها إلا أنه وُجد شُذَّاذ من البشر أنكروها، وأضحت فتنتهم وباءً وغزوا مُركَّزاً يتوجه إلى ناشيئة المسلمين وشبابهم، فيصيب عقيدتهم وأخلاقهم في مقتل، فلذا .. كان الوقوف في وجه هذه الفتنة النكراء، وهذا الإرهاب الفكري من أعظم الجهاد في سبيل الله لأنه دفع للصائل عن الدين والدنيا معاً.

قبل أن أسترسل .. أنبه إلى أنه قد يقول قائل:
"الملاحدة في المجتمع المسلم شيءٌ شاذٌ ونادر، فلماذا هذا الموضوع؟"
والجواب أن يقال:
على تسليم أن هذ ا  المرض العُضال قليلٌ في المجتمع المسلم، فهل من الحكمة أن نتجاهله وأن نعرض عن الكلام عنه؟
هل من الحكمة والعقل أنه إذا اكتشف في بلدٍ ما وباءٌ فتّاك يُهلك الحرث والنسل، ويخشى من سرعة انتشاره -لكن الحالات المسجلة ليست إلا حالة أو اثنتين فقط- هل من العقل والحكمة أن نعرض عن هذا الشأن بالكلية لأن المصابين قليل؟
أم أن من الحكمة والعقل أن تُستنفر الجهود والقوى لدفع هذا الوباء؟
لاشك أن هذا هو المتعين والمتحتم في أوبأة الدنيا، فما الحال مع أعظم وباء وهو وباء جحد الخالق تبارك وتعالى- والكفر برسالاته وأنبياءه؟

لكن نحن نحتاج مع ما سبق حين نطرق هذا الموضوع إلى الجمع بين الشجاعة والصراحة وبين الاتزان والعقل، ثم أن نتجاوز التنظير إلى العمل، ومن طرح الأفكار المجردة إلى الخطوات الفعلية.
إن الأفكار التي تنزع إلى الإلحاد أو اللادينية وما لفَّ لفَّ هذا المنهج لا شك أنه قد بَذَرَ بذرته في المجتمع المسلم، ووصل غبار ذلك إلى مجتمعنا، هذه حقيقة لا يعتريها شك !

نعم .. وجود ذلك في الواقع شاذ وسيبقى شاذاً بإذن الله- لكن المُقلق مجرد دخول هذه الأفكار، ولو صمتنا وصمَمنا آذاننا فسيكون الواقع أشد خطراً.

الواقع والحقيقة التي لا أظن أن يجدال فيها أحد : أن كثيراً من شبابنا ليسوا مُحَصَّنين التحصين الكافي أمام سيل الشبهات والشهوات .. وهذا مقلق حقاً، لكن مع الاستعانة بالله أولاً، ثم الجد والنشاط في مواجهة هذا الفكر الباطل فسيضمحل بتوفيق الله كيدُ الكافرين ((وأن الله موهن كيد الكافرين)).

إن وسائل مواجهة الإلحاد كثيرة لكن ينبغي أولاً أن نعيَ أنّ إنحراف من انحرف أو سقط في قذارة الإلحاد من شبابنا، وأنا أخص شبابنا بالحديث لأنهم الفئة المستهدفة غالباً من أرباب الإلحاد.

أقول:
في الغالب لن يقع أحدٌ في أُتون الإلحاد إلا من تقصيرٍ بوجهٍ ما من ذوي المسؤولية التربوية والعلمية والدعوية: كالأسرة، والمدرسة، والجامعة، والإعلام، والموجِّهين، والدعاة؛ واستشعار هذه المسؤولية قبل كل شيء من الأهمية بمكان، بل هو الخطوة  الأولى في العلاج.

سُبل المواجهة لهذه النزعة الباطلة، نوعان: وقاية، وعلاج؛ وأولهما أهمُّهما.

المقصود بسبل الوقاية هو الأسباب التي تحول بتوفيق الله جل وعلا- بين الشباب المسلم وبين الوقوع في براثن الإلحاد، بمعنى: كيف أن نصنع حاجزا بينهم وبين هذه النزعة النكراء؟

*هذا له أسبابٌ ووسائل يمكن أن أخلص أهم ذلك فيما يأتي:

أولاً: السعي في الوصول بالشباب والناشئة إلى ذوق طعم الإيمان ووجدان حلاوته.
من خلال التأمل في صفات الله -تبارك وتعالى- .. من خلال التأمل في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم- وشمائله .. من خلال التأمل في محاسن الإسلام؛ وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم- : (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم- رسولاً).لابد أن يطرق آذانهم باستمرار ما يرسِّخ هذه الأمور الثلاثة.

ثانياً: غرس العقيدة الصحيحة في النفوس بكل وسيلة.
بالدروس بالمحاضرات، بالخطب، بالبرامج، بالمناهج .. بكل طريق، لاسيما الأصول التي يؤدي الرسوخ فيها بتوفيق الله إلى تفكيك الشبه الإلحادية:
-تحقيق التوحيد في جانب الربوبية .. إثبات وجوده -تبارك وتعالى- بآياته ومخلوقاته.
-الإيمان بالغيب.
-تعظيم النصوص.
-بيان حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر.
-العلاقة بين العقل والنقل.
-أيضا قضية الإيمان بالقضاء والقدر، واعتقاد الحكمة في أفعال الله جل وعلا-، وأن يُوضَّح لهم أن ثبوت الحكمة في خلق الله وقدره لا يعني معرفة كل تفاصيلها.
-كما يجب أن تُعاد الهيبةُ للمواد الشرعية في المناهج التعليمية، أن يربى الطلاب على أنها هي الأصل والأعظم والأجدر بالاهتمام، وأن تكون لها الصدارة بعدد الحصص في أوقاتها وفي الدرجات.
الثالثاً: تقوية شعورهم بالاستعلاء الإيماني والنعمة الإيمانية، واليقين بأن الله -جل وعلا- مع المؤمنين يكلأهم برعايته ويمدهم بعونه وتوفيقه، ثم منقلبهم في الآخرة جنات النعيم حيث غاية لذتهم رؤية البر الرحيم تبارك وتعالى- .

رابعاً: الترشيد الثقافي.
بمعنى: ملاحظة مصادر التلقي التي يستقي منها الشباب أفكارهم، فيلاحظون فيما يقرأون .. فيما يتابعون من قنوات .. فيما يدخلون من مواقع .. لا يترك لهم الحبل على الغالب؛ إن من أعظم الأخطر يا أيها الإخوة- أن يسمح للناشئ بأن يبحر في الشبكة كيف شاء دون رقيبٍ أو حسيب.

إننا نعيش اليوم مُعضلة وهي أنه قد أضحى لكل شاب أو فتاة عالمٌ خاصٌ به وبها: مجموعاتٌ خاصة أو كما تسمى اليوم بـ "القروبات"- ، مواقع، حساب في "تويتر" أو "الفيس بوك" أو "الإنستغرام" .. جهازٌ خاص .. وباءٌ مغلق ! ولا يدري القريب والبعيد عن هذا العالمِ شيئاً.

وهنا أيها الإخوة- يَكمُن الخطر، أُنبِّه هنا أيها الإخوة- إلى أنه لا بد أن يكون بيننا وبين الشباب والناشئة .. بين أبنائنا وإخواننا في البيوت وسائل تواصل قوية، نحتاج .. حتى نصل إلى الطمأنينة .. إلى تحقيق الأمن الفكري.

أن تكون العلاقة بين الابن وأبيه .. بين الأخ وأخيه .. بين المعلم والتلميذ أن تكون علاقة صداقة، بحيث يكون (الأب،الأخ،الأستاذ) الصدر المفتوح أمامه ليبثه الشبه التي تعرض له .. الأسئلة التي تُحيّره .. بدل أن يذهب فيبحث عنها بعيداً وربما سقط في جحور العقارب والحَيَّات.

خاسماً: تأصيل المنهج الشرعي في التعامل مع الشبهات.
بالنَّأيِ عنها والسعي في كشفها، وهذا يا أيها الإخوة- أمر مهم ينبغي أن نُعنى بغرس هذه القضية في نفوس الناشئة وهو أنّ الشبهة داء، ولا ينبغي التعرض للداء، والسلامة كما قال السلف لا يعدلها شيء، ومنع المبادي أولى من قطع التمادي.
الشبهة فتنة .. والنبي صلى الله عليه وسلم- قال كما في سنن أبي داود: (إنّ الفتن من اسشرف لها استشرفت له)، وعليه .. فيجب أن يُقنع الناشئة وغيرهم أيضاً بأن لا يرخو أسماعهم لمن يبث في نفوسهم الشُّبه .. الشبه خطّافة .. والقلوب ضعيفة، فالاستماع للشبهة إذن مغامرةٌ غير محسوبة العواقب ! كم من إنسان ظن من نفسه القوة والعلم فوَلَج إلى موقع أو استمع إلى مُلَبِّس فوقع في صدره شبهةً لم تخرج منها، بل صرعتهُ وفعلت به الأفاعيل، ثم إنه إذا ابتلي بذلك عن غير تنقير فعليه أن يلجأ إلى الله -جل وعلا- في أن يعافيه منها، ثم أن يراجع على عجل أهل العلم لكشفها ..
هذا هو الحق المبين، وما سواه فتلبيسٌ مكشوفٌ يُسوِّقه دعاة الضلالة الذين يدعون إلى انفتاحٍ ثقافي غيرٍ منضبط، والهدف: أن يترك الشباب نهباً لهم فيوجهونهم إلى حيث شاءوا.

سادساً: رعاية شباب المسلمين المبتعثين إلى بلاد الكفر.
علمائنا يا أيها الإخوة- قد حسموا الباب، وبينوا ما يحل من الابتعاث وما يحرم وما ضوابط الحل، والواقع الذي نعيش فيه .. فيه مشكلة لا ينكرها عاقل، والواجب على الغيورين ألا يقفوا مكتوفي الأيدي ويتركوا هؤلاء الشباب وهم حدثاء الأسنان، قليلوا التجربة صيداً سهلاً لهؤلاء الملاحدة ولهذه الأفكار الهدامة.

لا يجب أبداً أن نُقدِّر أنّ على قلوب الشباب المبتعثين سواترَ حديدية تمنع من تسلل الأفكار الضالة إلى قلوبهم .. وهنا أرفع صوتي مُخاطباً الحريصين على هؤلاء الشباب من مؤسساتٍ وأفراد إلى أن يولوا هذا الموضوع الاهتمام اللائق به..
أن يضعوا البرامج التي تهدف إلى تحصين الشباب قبل ذهابهم وبعد ذهابهم.

إنّ على الجهات الرسمية التي تُعنى بالدعوة والإرشاد والملحقيات الثقافية وغيرها واجبٌ في توعية الشباب وتحريرهم، وأن يكونوا الصدر الواسع الذي يحتضنهم، والذي تتكسر على عتباته أمواج الشك التي قد تحيط بهم.

على الدعاة ألا يغيبوا عن ساحة النصح، وأن لا يهملوا هؤلاء الشباب ..
على أهل هؤلاء الشباب وأصدقائهم واجبُ المتابعة والملاحظة وتقديم النصح.

سابعاً: أن تقوم الجهات المسؤولة من الجهات المعنية بالدعوة والحسبة ورعاية الشباب والتعليم وغيرها بتجفيف منابع الإلحاد واجتثاث أسبابه.
وذلك من خلال غرس قيم مراقبة الله -تبارك وتعالى- ومن خلال غرس العفة والترفع والبعد عن القاذورات الأخلاقية.
أرباب هذه الأفكار يا أيها الإخوة- يصطادون غالباً الشباب والفتيات من خلال شبكة الشهوات وأُحبولةِ النزوات، إذن يجب أن نتنبه إلى هذه القضية، ولكن.. يجب أن يكون الخطاب اليوم مناسباً لعقول الشباب.
شباب اليوم يا أيها الإخوة- ليسوا كالشباب قبل عشرين أو ثلاثين سنة .. وسائل التواصل الحديثة علمت الشباب طرائق حديثة في التفكير والنقد، وفتحت عقولهم على أشياء لم يكن يلتفت إليها في السابق..إذن لابد أن يكون خطابهم عاقلاً مُتزناً هادئاً مُقنِعا.

ثامناً: المعلم.
المعلم حصنٌ منيع بتوفيق الله من الوقوع في أُتون هذا الفكر .. عقول الناشئة مفتوحةٌ بين يدي هذا المعلم .. إذن المسؤولية الملقاة على عاتقه عظيمة.

ما الذي يضر المعلم لو خصص ثلاث دقائق في كل حصة يذكر فيها قصةً من السيرة، أو دليلاً من دلائل النبوة، أو ينبه على خلُقٍ فاضل، أو سلوكٍ خاطئ، أو يرشدهم إلى رسالة أو كتابٍ نافع؛ وهذا ليس واجب مدرس المواد الدينية فقط، بل هو واجب الجميع.

بل لو أن معلم الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء مثلاً- نفذ من خلال النظريات والحقائق العلمية الحديثة إلى تعميق الإيمان بربوبية الله وعظمته، وتوهين شبه الملحدين لكان في هذا الخير العظيم.

تاسعاً: الخطباء وأئمة المساجد.
يجب يا أيها الإخوة- أن تكون الموضوعات التي يطرقونها مواكبةً لهذا التحول الفكري الكبير في عقول الشباب .. اليوم هؤلاء الفضلاء -وهم قائمون بذلك ولله الحمد ولكن من باب التذكير- هم مطالبون بانتقاء الموضوع المناسب، ثم اختيار الأسلوب المناسب، فالناس اليوم في أمَس الحاجة إلى خطبة مؤثرة، وكلمة مقنعة، وجواباً عن أسئلتهم، وحلٍ لمشكلاتهم.

عاشراً: التزام الوصايا النبوية العظيمة الواردة في هذا الباب.
ومنها الإكثار من ذكر الله تبارك وتعالى- .. الإلحاد -يا أيها الإخوة- ليس قضيةً علميةً ثابتة، إنما هو مجموعة وساوس، والوساوس إنما تنفذ من خلال الشيطان، وفي حديث الحارث الأشعري عنه صلى الله عليه وسلم- قال: (وكذلك العبد لا يُحرِزُ نفسه من الشيطان إلا بذكر الله).

ثم ينبغي العمل بما جاء في التوجيهات النبوية عنه صلى الله عليه وسلم- لمن ابتلي بهذه الوساوس التي تصل إلى شكه في ربه تبارك وتعالى- وهي خمسٌ مُسْتَخلَصةٌ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم- ينبغي أن تُعلَّم:

أولاً: أن يقول العبد: (آمنت بالله ورُسُله).
ثانياً: أن يقول: (الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ،ولم يكن له كفواً أحد).
ثالثاً: أن يتفل عن يساره بعد هذا القول ثلاثاً.
رابعاً: أن يستعيذ بالله من الشيطان.
خامساًَ: أن ينتهي عن هذه الوساوس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم- قد قال وقوله الحق- : (فإن ذلك يذهب عنه).

هذه عشرُ وسائل للوقاية.

أما سبيل العلاج، بمعنى: كيف نتعامل مع من وقع بالفعل في شبهةٍ أو شكٍّ تعلق بجناب الربوبية أو الرسالة أو الدين؟

هذا المقام -يا أيها الإخوة- في غاية الخطورة، فإن هذه الأفكار ليس لها أدلة أو قضايا علمية مقنعة، إنما عِمادها شبهاتٌ مُهلهَلةٌ تُزخرَف على أنها حقائق علمية قطعية، والواقع أنها لا شيء!

والأمر الثاني التشكيك في الدين بطرح إشكالات تتعلق بقضايا تشتبه على ضعيف العلم الشرعي فتوقعه في حيرة، هنا نحن نحتاج إلى أن نتعامل مع هذه الحال بقدرٍ كبير من العقل والحكمة، وذلك من خلال ما يأتي:

أولاً: يجب ابتداءاً فتح الصدور من ذوي العلم والعقل لهؤلاء الشباب الحائر، يجب أن يفسح المجال ليتحدثوا لهم وليبثوا ما يجيش في صدورهم، وأن لا يكبتوا، أو يُزجروا ابتداءاً، فعُقبى هذا إن حصل غيرُ حميدة.
اعلم أنك إن لم تحتضنه فسيذهب -كما ذكرتُ- إلى جحور الحيات والعقارب .. وما أكثرها!

ثانياً: يجب حين الاستماع لهذا الشاب الحائر المتشكك أن يُمَيز بين إنسان طبيعي وقعت في نفسه شبهة، وبين آخر مصابٍ بوسواس قهري، فهذا الأخير يجب أن يعالج في موضوع الوسواس بتدرجٍ وصبرٍ وحكمة، مع الاستعانة بالطب النفسي إن احتاج الأمر لذلك.

وليُعلم يا أيها الإخوة- أن شريحة كبيرة من هؤلاء الشباب الذين يطرحون إشكالات تتعلق بهذه القضايا هم في الحقيقة مصابون بهذا المرض أعني الوسواس القهري- وبالتالي فهم لا يحتاجون إلى إقناعٍ عقلي وإنما إلى علاجٍ نفسي.

أما الطرف الثاني فهو شابٌّ سوي لكن عنده شبهه فهذا يجب أن يُبادَر إلى اجتثاث ما وقع في نفسه سريعاً وأن لا يُهمل ولا يُسوّف، لأنها إن كانت اليوم شبهةً صغيرة، فغداً ينفخ فيها شياطين الجن والإنس فتكبر ويصعب التعامل معها.

لا تحقرنَّ سُبَيْباً            كم جر أمراً سُبَيْبُ

ثالثاً: لا ينبغي أبداً أن يتصدى لمناصحة ومناقشة ومحاورة هذا الصنف إلا طالبُ علم مؤهل، لا جاهلٌ يزيد الطين بِلَّةً كما يقال-.

الحقيقة أنّ شريحةً من هؤلاء الشباب الذين أوغلوا في هذه النزعات الضالة كان من أسباب انحرافهم وأنا أتكلم عن معرفةٍ بهذه القضية- أنه عرضت لهم إشكالاتٌ يسيرة فطرحوها على من ليس مؤهلاً فأجاب بإجابةٍ ضعيفة غير مقنعة فانعكس هذا في أنفسهم إلى اعتقاد إلى أنّ الموقف الإيماني برُمَّته ضعيف، فانسلخوا من الدين والعياذ بالله. إذن إن لم يكن عندك علمٌ فلا تغامر بهذ المسكين وإنما أرشده إلى شخصٍ مأمونٍ مؤهَّلٍ.

بقي أخيراً .. شخصٌ متمردٌ يدعو إلى الإلحاد ويقيم عليه الأدلة ويسخر من الشريعةِ وأهلها، فهذا يجب أن يرد عليه أهل العلم، ولا يجوز السكوت على باطله، وهذا له ضوابطه المعروفة عند أهل العلم.

ختاماً ..

اسأل الله تبارك وتعالى أن يملأ قلبونا بحبه وألسنتنا بذكره، وأن يوفقنا لطاعته، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.

الاثنين، 10 نوفمبر 2014

الحرية في الإسلام .. لفضيلة الشيخ صالح بن عبدالعزيز سندي -حفظه الله-

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا، أما بعد:

فإن قضية الحرية بمفهومها المعاصر صارت مسارُ جدلٍ كبير نظراً لاختلاف الناس في فهمها وتطبيقها، نعم ... لا يُنكَر أن هذه الكلمة تهواها النفوس، وتَهِشُّ لسماعها، ولقد كانت العرب تعتز بالحرية وترى أنه يجتمع معها جميعُ مكارم الأخلاق، ألم تسمع إلى قول صاحب لامية العرب:
ولكنّ نفساً حرّةً لا تُقيم بي
على الذل إلا ريثما أتحول

أو قول الآخر:
تخير مِن الاِخوان كُل اِبن حرة              يَسرك عِندَ النائِباتِ بَلاؤُه

لكن الأمر في هذا العصر قد تغير، إذ أضحت هذه الحرية من أكثر الكلمات إشكالا، فلها تعريفاتٌ شتّى، وتستعمل في حق ويتذرع بها إلى باطل، ويتكلم بها الصِدِّيق والزنديق، فما أحراها أن توضع تحت مجهر التأمل لضبطها ومعرفة حدودها وصوابها من خطإها، وذلك أن كلا يحمل الحرية على هواه، فحتى الوقح يعُد وقاحته حرية، والمسرف يحسب إسرافه حرية، والشاذ يصف شذوذه بالحرية، وهكذا.
فكم لقي هذا اللقب من تعسف وتشويه وعبث ومن البلاء.

إن فئات شتى من المبطنين أو المخدوعين جعل من موضوع الحرية سلاحاً أشهرته في أوجه المصلحين، ووسيلة ضغط على المجتمع وناصحيه، فإذا راموا فشيد باطل، أو إسكات صوت الحق تنادوا:
(يال الحرية) .. !

وتباكوا على حماها المستباح، والحقيقة أنهم ينصبون من رفع شعار الحرية إلى هدم أركان الفضيلة، وتمزيق حجابها وتفكيك عُراها، واعتبِر هذا بأعتى شياطين الإنس من الماسونية، فقد انتحلوا شعار الحرية مع أخويه: "الإخاء" و  "المساواة". ألفاظٌ مزخرفةٌ  حلوة، لكن تحتها السم الزُعاف.

إن المفتونين في هذا العصر قد خلعوا على هذه الكلمة محاسن وزخارف حتى بدت فتنة لكل أحد، فلما نكشف الغبار عنها أبدى واقعهم أنها كلمة لا حياة فيها غير أنها مركبٌ ذَلولٌ للتمرد ! وقنطرة لتجاوز القيَم.
كم أولئك المخدوعون ؟!
كم نسمع من إنسان إذا قيل له: "أدِّ واجباً" أو "كف عن باطل" ... أجاب ببرود:
(أنا حُر) !
 هل هذا الكلام صحيح؟
هل الإنسان حر في أن يفعل كل ما يشاء ويترك كل ما يشاء، بلا حاكم يحكمه إلا هواه؟
هل الحرية جُنّةٌ يُتَّقى بها المسؤوليات، ويتخلص بها من الإلتزامات؟
وإذا فرضنا هذا المُنطلَق، أو إذا طلبنا هذا المنطق فهل تستقيم للمجتمعات حياة؟
إن كثيرا من الصراع الذي بين الفضيلة والرذيلة، وبين الخير والشر، وبين العدل والبغي هو راجع في حقيقته إلى الاختلاف على ضابط الحرية.
ثمّة منهجان في تحديد ماهية الحرية وضوابطها:
-فحريةٌ معتدلة نافعة، يقررها الإسلام بعدله ورحمته وحكمته.
-وحرية زائفة متمردة، ينتهجها المتمردون على شرع الله على اختلاف نحلهم أو من سار في ركابهم، إنها حرية مطلقة عند هؤلاء .. أن تفعل أي شيء دون أن يقيدك شيء، حرية متطرفة تدعو إلى ما يسمونه أو يطلقون عليه (الأنانية) ! فالأولوية المطلقة فيها للفرد، لا رقيب فيها ولا حسيب، ليس فيها معيار ثابت للحق والباطل، أو ميزان للخير والشر، أو ضابط للقيم السامية والسافلة.
إنها حرية منفلتة ألغت كل قيد بل ألغت كل قيمة، وأعظم قيمة ألغتها الدين الحق، فتحت ظلال هذه الحرية لا فرق أن يُعبد الله الرحيم الرحمن وأن يعبد الحجر والبقر والشيطان!

أما الأخلاق عندهم .. فليس لها معيار إلا اللذة والمنفعة، أو الإرادة والهوى، إنها حرية باطلة، أرخت العنان للشهوات، فباسمها يمكن للإنسان أن يمارس كافة الشذوذ وجميع أنواع الفجور.
حريةٌ متمردة !
تعني امتثال داعية الهوى، والجهر بأي رأي ولو عارض شرعاً أو خالف خُلُقاً أو صادم عرفاً...

حريةٌ زائفة !
أولها بهرجةٌ وقد يكون فيها امتاع لكن آخرها فساد وضياع .. نعم هو ضياع !
فما الذي أفرزته هذه الحرية عند أولئك؟
هل أورثَتهم سعادةً حقيقية؟ كلا والله ! بل بؤساً وضيقةً وضيقاً يهربون منه بكل وسيلة، بل أصبحت الحياة ذات قيمة ضعيفة عندهم.. رخيصة، حتى إن أحدهم قد ينتحر لفقد عشيق! بل لوفاة مطرب ! بل لهزيمة فريق ! فما قيمة هذه الحرية التي ما أغنت عنهم فتيلاً ولا قطميراً؟

أي قيمةٍ لحرية لا يملك فيها الإنسان تحكما في غريزة أو كبحاً لانفعال؟
أي رِقٍّ أذل من هذا الرق ؟!
غير أن المؤسف حقاً .. أن مفاهيم هذه الحرية قد غزتنا في دورنا، لتجعل ناشئ المسلمين ينشأ في عزلة عن دينه وتاريخه .. يريدون من الفتاة المسلمة والفتى المسلم أن يكون حراً، ولو نقب السفينة ليَغرقَ ويُغرِق.

حريةٌ تغرقه أولاً في أمواج الشهوات تحت مظلة (الحرية الشخصية)، ثم تغرقه في لُجَج الشك تحت مظلة (حرية التفكير)، ثم تطرحه على ساحل التمرد على دينه تحت مظلة (حرية الرأي)، وأخيراً .. تهوي به في وادٍ سحيق من الإلحاد والردة تحت مظلة (حرية الاعتقاد) !

هذه هي الحرية بوجهها القبيح: ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب، شعارها الانفتاح، وحقيتها أغلالٌ ثقيلة، الإنسان تحت رايتها أسير لذةٍ يطيعها، وشهوة تقوده وهوى يتحكم فيه، حاله كغصن ضعيف، أي نسيم مرَّ به أماله، فتارة تميله صورة تارة يجذبه منصب، وتارة يستعبده الدينار والدرهم، فيتخذ حينها إلهه هواه ويتبعه بغير هدى من الله.

لقد عمي هؤلاء وصمّوا .. عن أنّ الإنسان عبدٌ شاء أم أبى!- فلا ينفك من العبودية البتة:
فإما أن يكون عبداً لله: فيتحرر لعبودية من سواه.
وإما أن يكون عبداً للشهوة أو الشهرة أو  المال .. أو ربما كان عبداً لثوبه ! (تعس عبد الخليصة، تعس عبد الخليلة) ..
أما الإسلام فقد جاء بالحرية المشرقة الصادقة، حرر القلب من التعلق بالخلق، وحرر الاعتقاد من الخرافة والهوى والتقليد الأعمى.
إن الحرية في الاسم يا أيها الإخوة- حقٌ للإنسان بل ضرورة فهو يفعل الخير باختياره فيثاب، ويفعل الشر باختياره فيتعرض للعقوبة، فالحرية في الإسلام مناط التكليف ((ونفسٍ وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها)).

قوام الحرية في الإسلام: أن يعرف المرء ما له وما عليه، وأن يذعن لقواعد الانصاف، وأن ينصاع لسلطان الحق..

إن الحرية في شرعنا .. هي قدرة الإنسان على الاختيار حيث لا ضرر ولا ضرار، ولاحِظ أنهما طرفان لا طرف، لا ضر بالنفع ولا ضرار بالغير.

تلك الحرية الجامحة آنفة الذِكر- جاءت في أحسن أحوالها بطرفٍ واحد، فقالوا: "لا إضرار بالآخرين، أما نفسك فافعل بها ما تشاء" فأي المنهجين أعقل وأرحم؟

لقد جاءت شريعتنا بالموازنة بين الحرية والمسؤولية، فكما أن الحرية حق لك، فالمسؤولية تجاه نفسك ودينك والآخرين واجب عليك، فإذا أردت ممارسة حقٍ فعليك أن تؤدي واجباً.

جاء الإسلام لتوضيح الفرق بين حرية المرء "أن يفعل ما يريد" و "أن يفعل ما ينبغي" .. لقد بين أن مسافة شاسعة تفصل بين الحرية والفوضى، وإذا كان العقلاء جميعاً متفقين على أنه لا يمكن أن تنفصل الحرية عن النظام فقد جاء الإسلام ليقيدها بقيود توقِّد العدل وتمنع الظلم .. ظلم النفس وظلم الغير ..

أنت حرٌ .. في قولك في تفكيرك في كسبك ما لم تؤد حريتك إلى تهديد سلامة المجتمع وتقويض أركانه، أو تفويت حقٍ أهم، وما لم تؤدِّ إلى إضرار بالنفس أو بالآخرين ..

أنت حرٌ .. ما لم تتعد حدود الله ((تلك حدود الله فلا تعتدوها)) ..

أنت حرٌ .. ما لم تتبع هواك ((ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا)) ..

أنت حرٌ .. مالم تظلم الآخرين أو تعتدي على حقوقهم ((إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم)) ..

الخلاصة .. الحرية في الإسلام مقيدة لا مطلقة، منها المقبول ومنها المردود، والمرجع في هذا حكم الشرع الحكيم.

أيها الفضلاء ..

إذا كنا نقف على ساحل الحرية فإني لا أستطيع أن أقف هذا المقام دون أن أقف وقفةً مع نوعٍ من أنواع الحرية التي شاعت وذاعت، وتناولتها الألسنة والأقلام صراحةً أو على استحياء، هذا النوع أخطر وجهٍ من أوجه الحرية الزائفة، يروج له أهل الباطل بكثافة في هذه الأيام، ألا وهو: (حرية الاعتقاد) !!

حيث يزعمون أن حرية الإنسان مكفولة له بحيث أنه مخير في أن يعتقد ما يشاء ويتدين بما يحلو له، وأن يدخل في الدين الذي يريد، وأن يترك الدين الذي يريد، لا فرق في هذا بين دين الإسلام وغيره من الأديان الباطلة، وربما نسب بعض الذين اغترّوا بهذا الفكر بهذه الفتنة، مع أنهم ينسبون أنفسهم إلى فكرٍ عقلاني سموه (إسلامياً) ..

هؤلاء نسبوا هذه الحرية الباطلة إلى الإسلام، وزعموا أن الإسلام يقول لك: "تنقَّل بين الأديان كما يحلو لك، فالتزم بما تشاء، واخرج واترك ما تشاء" وتشبثوا في هذا ببعض ما لم يفهموا وجهه من أدلة الشرع :
قالوا: " ألم يقل الله -جل وعلا- : ((فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) إذن هذا دليلٌ على أن الإنسان مخير يدخل فيما يشاء من الأديان ويترك ما يشاء؟"

وفرّعوا على هذا أن أنكروا حد الردة الثابت في صحيح البخاري وغيره عنه صلى الله عليه وسلم- ألا وهو قوله: (من بدل دينه فاقتلوه) .. زعموا أن هذا يتعارض مع مبدأ الشريعة الذي جاء في قوله تعالى: ((لا إكراه في الدين)).

إذا تأملت -يا رعاك الله- في كلام هؤلاء وجدت أن مشكلتهم أنهم منهزمون نفسياً، لذا فهم يحاكمون الإسلام إلى الفكر الغربي، أي يطالبونه أن يذوب، وأن لا تكون للمسلمين هوية، وأن تختفي معالمه ومميزاته .. يريدونه مرآة عاكسة لغيره فحسب...

لقد أخطأ هؤلاء خطأً كبيراً، إن الإسلام هو الدين الحق المنزل من عند الله، المستعلي على غيره، له مقاصده وحِكَمُه وأحكامه، وليس مطالباً بموافقة غيره من الأديان أو أوضاع المجتمعات، فمن آمن بأحكامها كلها، فإنه سيسعد في الدنيا والآخرة ومن كفر به فلن يضر إلا نفس ولن يضر الإسلام شيئاً ((ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً، يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم)).

وعوداً على بدءٍ أقول:
لا شك أيها الإخوة- أن من عرف دين الإسلام حق معرفته ليجزم أن هذه الخزية المزعومة من أوضح الإفك وأعظم الظلال، فإن أدلة الشرع كلها وإجماع المسلمين قاطبة قد قام على أن الدين الحق الذي لا يقبل الله من أحد سواه هو التوحيد .. هو دين الإسلام ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)).

 ليس للمرء الخيار في الدخول فيه أو الإعراض عنه أو الخروج منه بل هو ملزمٌ بالتزامه، ومتوعد بالخلود في النار إن أعرض عنه ((ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً)).

أما عن استدلالهم بقوله جل وعلا ((فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) أقول:
هذه الآية ليست للتخيير بين الإيمان والكفر، إنما هي للتهديد والتخويف، وهذا أسلوب عربي معلوم، والدليل على أنها للتهديد قوله سبحانه- عقيبها: ((إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها)) الظالمون هنا: هم الكافرون  ((والكافرون هم الظالمون))، إذن هي تهديد ووعيدٌ لمن اختار الكفر بعد أن جاءه النذير، وبعض أهل العلم في تفسير هذه الآية قال: إنها جاءت لإظهار غنى الله جل وعلا. أي: هذا الحق من ربكم فإن آمنتم فإنكم لا تنفعون الله بإيمانكم، وإن كفرتم فلا تضرونه بكفركم، ومهما يكن من شيء .. فليس في الآية لهم مُستمسك فيما يقررون، والله المستعان.

أما عن قوله -جل وعلا-: ((لا إكراه في الدين)) -وما أكثر ما يحرف معنى هذه الآية مع الأسف الشديد- هذه الآية (لا) فيها: إما أن تكون للنفي أو تكون للنهي

-فإن كانت للنفي: فهو إخبار من الله جل وعلا- أنه لا قدرة لكم على أن تكرهوا أحداً للدخول في الدين لأن الدين النافع أساسه ما في القلب من الاعتقاد، وما في القلب لا سبيل إلى الإكراه عليه.

أما إن كانت (لا) هنا للنهي: فالمعنى لا يرغم أحدٌ على الدخول في الإسلام ممن تؤخذ منه الجزية إذا بذلها، فإذا أبى أن يبذل الجزية فإنه يقاتل حتى يُسلم أو يُذعن بدفع الجزية، مع ملاحظة أن هذا لا ينفعه عند الله عز وجل-، إذا بذل الجزية لا ينفعه ذلك عند الله سبحانه- فإنه إن مات على غير الإسلام فهو من أصحاب النار وعليه لعنة الجبار.

على كلٍ -يا أيها الإخوة- الإكراه في هذه الآية راجع إلى قضية الدخول في الدين، وليس في قضية الخروج منه، الخروج من الإسلام شأنٌ آخر، ولم يقل أحدٌ قَط من أهل العلم المعتبرين تدل على أن للمرء الخيار في أن يترك الإسلام متى شاء .. كلا والله ! بل النص والإجماع على أن المرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل حداً.

حد الردة -يا أيها الإخوة- شُرِع في شريعتنا لمقاصد عظيمة وأهداف سامية، منها:
1- الحذر من تفرق الوحدة واختلال النظام، وانحلال الرابطة التي تجمع بين المسلمين.
2- إن المرتد بارتداده عن دين الإسلام قد أضحى حجر عثرة في طريقة إنتشار الإسلام، لما يشيعه عنه من قالة السوء، أو ما يلصقه به من معايب لسان حاله أو مقاله.
    فصار إذن أذىً يجب إماطته عن طريقه، وإذا كان العالم جميعاً يتقبل أن تكون عقوبة الخيانة العظمى للدولة أيَّ دولة!- هي القتل وذلك لأنها انتهاك لقدسية هذه الدولة، فهم يرونها جريمة ليس وراءها جريمة.. فإننا معشر أهل الإسلام نعتقد أن الإسلام أثمن وأقدس، والجريمة بانتهاك حرمته أشنع وأقبح، وعليه فإن هذا المرتد قد أعلن بتمرده على الإسلام انتهاكه لأعظم قدسية عند المسلمين، على أن الشريعة كانت أرحم من هذه القوانين حيث فسحت مجالاً للتوبة وأعطت فرصةً للأَوبة.
لعلي أكتفي بهذا القدر، وأسأل الله جل وعلى لي ولكم التوفيق والسداد، والهداية إلى الفقه في الدين، إن ربنا لسميع الدعاء.

وصلى اللهم وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.