فالحج أحد أركان الإسلام الخمس التي فرض الله على عباده أداءها، وما كان الله جل وعلا ليفرض على عباده شيئاً من العبادات لحاجته إليها، كلا ب هو الغني الحميد، وإنما فرض العبادات على بني الإنسان تشريفا لهم وتكريما ((يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد))، ((قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم)، وفي الحديث القدسي الصحيح ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً،ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم مازاد ذلك في ملكي شيئاً)).
ومن العبادات ما جعله مكررا في اليوم والليلة، ومنها ما جعله كل أسبوع كصلاة الجمعة، ومنها ما جعله كل عام مرة كالصيام، ومنها ما جعله في العمر مرة كالحج. ولكل من العبادات حكم ومنافع ومصالح للعباد،يحتاج كل منها إذا شرحناه وفصلناه لمجلد صخم؛ ولكنا نتكلم على ما للحجمن الحكم والفوائد السياسية والاقتصادية والروحية والجسمية، وغير ذلك إن شاء الله بمناسبة أشهر الحج وموسمه القريب.
لما أظهر الله تعالى بصفاته العليا، وأسماءه الحسنى، لخلقه، واحتجب عنهم بذاته، أمر خليله إبراهيم -عليه السلام- أن يبنى له بيتاً في مكان من أرضه، بعيداً عن زخارف الدنيا وزينتها، محاطا بالجبال، قحلا من الزروع والثمار، لا ما فيه ولا شجر، ولا بساتين ولا أنهار؛ فبناه مطيعا أمر ربه مخلصاً له العمل، وكان ابنه إسماعيل هو وحده مساعده ومعاونه حتى أتماه، وطافا حوله، وصليا شطره، ودعوا الله عنده. قال تعالى: ((وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم)).
وقد أخبر الله تعالى أن هذا البيت الكريم الذي بناه بأمر خليله إبراهيم هو أول بيت وضع للناس فقال عز من قائل: ((إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا)).
وقد أمر خليله صلى الله عليه وسلم بأن يدعو الناس إلى حجه فقال: ((وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام)) وقد فعل إبراهيم -عليه السلام- وصدع بأمر ربه، وأذن حتى أسمع الله أذانه كل من شاء له أن يحج إلى يوم القيامة .
أما المنافع التي ذكرها الله تعالى في قوله: ((ليشهدوا منافع لهم)) فهي كثيرة جداً، ونحن نقص عليك منها ما ييسر الله وما يفتح به:-
*المنافع الروحية:
كل محب يشتاق دوما لرؤية حبيله ولقاءه، ويحب زيارته ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإن عز الوصول إليه وتعذر عليه لقاؤه رؤيته، تسلى برؤية آثاره، والأشعار في ذلك كثيرة، منها قول بعضهم:
أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
ويقول آخر:
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقول ابن الدمنبة:
سلي البانة الفناء والأبطح الذي
به الماء، هل حييت أطلال دارك؟
وقوله:
عجنا على دارها نبكي، ونسألها
عنها ونسألها عن بيننا خطبا
دار ﻷسماء إذ حن الفؤاد بها
ولا تنول إلا الشوق والطربا
وإذا كان الشعراء وغيرهم من المفتونين بحب الصور الجميلة يتغنون بوصفها ويذهبون في حبها مذاهب العبودية، فالمؤمنون أشد حبا لله، وهم أحرص الناس على رؤية بيته؛ والقيام في مقام خليله -عليه السلام- والطواف حوله حيث طاف انبياؤه وأولياؤه الصالحون، وعباده المتقون، فإذا رأى المحبون لله بيت ربهم فلا تسل عن أنهار دموعهم كيف تجري؛ ولا عن حميا اشواقهم في اجسامهم كيف تسري، فهنالك عند بيت ربهم ومعبودهم الواحد الجليل الكبير الكريم يقفون على بابه وقد علا نحيبهم، ورفع لسان الحال صحيفة ذنوبهم، وسجل حوائجهم، فما ينصرفون إلا بتوقيع المغفرة، وقضاء مطالبهم، ولولا ثقل الأجسام لطارت النفوس منها إلى الرب جل جلاله شوقاً إليه وحبا له. إنها لا تشبع من رؤية بيت الحبيب ولا الطواف حوله؛ ولا الوقوف على بابه، وإنها لتشعر بأنوار تغمرها، وسرور يهزها، وفرح يذهلها عن كل شيء إلا عن ربها وبارئها. ومهما أوتي البلغاء من قوة البيان فهم عاجزون عن وصف ما تجده النفوس المؤمنة بربها عند بيته والطواف حوله.
ولما اقتضت حكمة الله أن يحتجب عن خلقه؛ وعلم ما يكون بهم من شوق إليه وحب له؛ جعل له بيتاً حيث شاء من أرضه، وقال لخليله إبراهيم -عليه السلام- ((وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود)) أليس في هذا من الشرف العظيم للطائفين والعاكفين والركع السجود ما يسلي عن الدنيا وزينتها، وملكها وزخارفها؟
الله أكبر:يأمر الرب جل جلاله خليله أن يطهر بيته لوفود بيته، وزوار حرمه: الطائفين والعاكفين فيه والركع السجود، ياله من كرم إلهي، ويالها من عناية ربانية.
يطوف العبد حول بيت ربه وقد ملأ اﻷنس به قلبه، وزكت روحه، يمثل بهذا الطواف سبع مرات فعل المحتاج المضطر، والفقير الملح؛ وكأنه يقول: مالي عن رحابك منصرف، ولا عن بابك تحول حتى تقبلني؛ وتتوب علي وتغفر لي، وترضى عني، ولئن لم تقبلني فمن غيرك يقبلني؟ وإن لم تغفر لي فمن سواك يغفر لي ذنبي، ويقيل عثرتي، ويمحو زلتي، والله يحب الملحين في السؤال والدعاء.
ثم يقف في مقام خليله فيصلي ركعتين بسورتي الإخلاص -قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد- ثم ينصرف فيسلم الحجر الأسود، وكأنه بهذا الاستلام عاهد ربه، وصافح يمينه -وكلتا يديه يمين- سبحانه عن سمات المخلوقين.
ثم يخرج إلى الصفا فيذكر الله تعالى ويدعوه، ويسعى إلى المروة، ذاكرا لله تعالى داعياً سبعة أشواط؛ فيتذكر بذلك سعب هاجر أم إسماعيل -عليهما السلام- حين كانت راغبة إلى الله وحده، ضارعة إليه، راجية أن تجد ماء لري ظمئها وظمأ ابنها، وقد كادا يهلكان، فما كادت تفرغ من سعيها ودعاء ربها حتى أنبط الله لهما الماء بجانب البيت، فشربت وسقت ابنها، وحمدت الله تعالى.
ونحن في حجنا تمثل (هذا الدور) وما كانت سيدتنا هاجر المصرية أم إسماعيل -عليه السلام- في حاجتها واضطرارها إلى الماء؛ بأحوج منا والله ولا سيما في هذا الزمن الى قطرات من رحمته يطهر بها نفوسنا، ويشفي أمراضنا الخلقية والاجتماعية التي أودت بنا، وجعلتنا عمالا للدول المستعمرة، وخدما لعلوج الأعاجم.
فهذا الطواف والسعي بين الصفا والمروة المقصود منه ذكر الله تعالى، ولو لم يكن في لذلك السعي إلا طاعة الله ورسوله والتأسي بخير الخلق، لكفى.
ويوم التروية يخرجون إلى منى فيبيتون فيها، ويصبحون آمين عرفات، بعد طلوع الشمس، وان ورود الناس الى هذا الموقف، واجتماعهم محرمين، متجردين من كل شيء، إلا ما حملوا من زاد؛ ووقوفهم عارية رؤوسهم، ضاحين في الشمس، يدعون ربهم تضرعا وخفية، على اختلاف ألسنتهم ولهجاتهم وأجناسهم -لمذكر بيوم الحشر، وماح مابينهم من فوارق؛ ومعيدهم الى بساطتهم اﻷولى؛ وباعث فيهم روح المحبة والمودة؛ فإن اتحاد الناس في عمل ما، له تأثير في النفس يعرفه العلماء، فكيف اذا كان اتحادا في عبادة معبود واحد؛ في زي واحد، وقول واحد، في مكان واحد؟
لا ريب أنه يكون له أعظم تأثير في تنمية العواطف الدينية والمحبة الملية التي هي فوق كل محبة ((إنما المؤمنون إخوة((
فهنالك في هذه المواقف ترى معنى هذه الأخوة، ويشعر بها كل مؤمن ذاق حلاوة الإيمان، ولهذا علم اﻹفرنج فوائدها الروحية والاجتماعية عملوا على تكثير العقبات وبثها في طريق المسلمين للحج من دون الناس ودون سائر الطرق.
ولم يكن إبليس في يوم أغيظ منه في يوم عرفة، لما يرى من اتجاه المسلمين كلهم إلى خالقهم يرجنن رحمته؛ ويدعونه راغبين فيما عنده من مثوبة، وقد تجلى تعالى، ونزل إلى سماء الدنيا وباهى الملائكة، وقد طهرهم من ذنوبهم التي طالما دنسهم بالوقوع فيها شيطانهم، فعادوا فرحين مستبشرين.
وما هي إلا برهة يسيرة حتى وافوا مزدلفة، فحطوا فيها رحالهم، وجمعول بين صلاة المغرب والعشاء، وباتوا بها ليلتهم، حتى إذا اقترب الفجر قاموا وتطهروا وصلوا الصبح ودعوا ربهم؛ وناجوه بكل مطالبهم، وجمعوا جمراتهم،
وفي رمي الجمار معنى سام، وذلك أنه رمز لرمي الشيطان الرجيم وإهانته، وفيه دليل عملي على الزهد في الدنيا وكراهيتها والإقبال على الآخرة، وقد كنت اسمع من عوامنا في الأرياف اذا أراد أحدهم مفارقة أحد واليأس منه (رمينا طوبته) ونفضنا يدنا منه، ونحو ذلك، فرمي الجمار فيه هذا المعنى.
ومعنى آخر : وهو تعليم الجهاد والحث عليه، فإن الحروب كلها مبنية على الرمي، من عهد بدء الخليقة إلى اليوم؛ ولذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا).
ولما كان كيد إبليس ضعيفاً ، وقال الله فيه ((إن عبادي ليس اك عليهم سلطان)) وقد عرض في هذا الموقف لإبراهيم -عليه السلام- حين أمر بذبح ابنه، لم يرد ان يرميه إلا بهذه الحصوات الصغيرات احتقارا له، وعدم عناية به.
وبعد هذا الرمي لجمرة العقبة يوم النحر يحلق رأسه، ويذبح هديه، ويلبس ثيابه، ثم يذهب إلى بيت ربه فيطوف كما طاف أول مرة، ويسعى بين الصفا والمروة إن لم يكن سعى أوﻻ، وإلا فيكيفه السعي اﻷول لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فما تجد اﻷرواح المؤمنة لذة في عمرها أحسن ولا أفضل من هذه اللذة التي وجدتها في عبادة ربها تلك اﻷيام عند بيته المشرف، وتلك المشاعر العظيمة.
وأما الفوائد الجسمية فلا ريب أن العمل والسفر والحركة يزيد الجسم قوة ونشاطا، وحسب اﻹنسان وشعوره بأن هذا النصب في رضا المحبوب الأعلى.
وأما الفوائد السياسية والاجتماعية فنتكلم عنها في فرصة أخرى إن شاء الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق