الاثنين، 29 سبتمبر 2014

مقال: الكُتَّابُ.. وَقَانونُ الكِتَابَةِ فِي القِرْطَاسِ (الشيخ عبدالعزيز بن ندى العتيبي)

الحمد لله الذي علَّمَ بالقلم، والصلاة والسلام علَى من أُرْسِلَ الى الناسِ كافة، من عرب وعجم، أما بعدُ:

قال الله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الانْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 3-5]، وهذا قسم من الله تعالى وتنبيه للخلق على نعمة تعليمِ الكتابةِ التي جُعلت أداة للمعرفة، وبِها تُكْتَسبُ المعارف وتُنَالُ العلوم، ولذا قال تعالى: {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1].

قال ابن كثير في «التفسير»: والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني ولفظي ورسمي، والرسمي يستلزمهما من غير عكس.اه وَان امساك اليد بالقلم والصحيفة، وانسياب المداد ليكتب مخزون العقل، وما يَسْتحضره الذهن، لهو فن رفيع القدر، عظيم الشأن، مَنَّ اللهُ سُبْحَانَهُ بِهِ عَلَى عبادهِ، لذلك يَحْسُنُ لِكُلِّ كاتبٍ ان يَعْرِفَ قَانُونَهُ وَأَعْرَافَهُ.

والكتابُ المَرقوم قد يكون هدفه:
1 - مراسلةُ أخٍ أو صديق أو رفيق.
2 - كتابةٌ مَضْمُونُها المديح والثناء.
3 - وقد يكون الكاتب، ذَا مِهْنةٍ فِي وزارةٍ أو ديوانٍ أو كاتبٍ لَدَى سُلْطانٍ، يَقُومُ عَلَى اعْدَادِ المُراسَلاتِ وَالمُخَاطَباتَِ، وبِأسلوبه قد يوقد حَرْباً بَيْنَ طرفين، وَكَمْ جَمَعَ بِجَميلِ خِطَابِهِ بَيْنَ ضِدَّيْنِ.
4 - وَمِنَ الكتابَةِ تَصنيف الكتب والمؤَلفات في شَتَّى المَعَارِف وَالعلومِ.
5 - وَمَن فنون الكتابة، ان يكون كاتب مَقَال ينشر ما يكتب فِي احدَى الصحف اليومية أو الأسبوعية.

خير ما يقتني اللبيب كتاب محكم النقل متقن التقييد

فما القانون الذي يحكم قلم الكاتب؟ وما ذلكم المعيار الذي يقاس به أداء الكاتب؟ وما هي المعالم المشتركة التي يجب توفرها في المكتوب؟ ليُجاز عندَ أربابِ القلمِ ونُقَّادِ الكَلِمِ، فيصبح بهذا القانون من فرسان الأقلام، وأمراء الكلام، ويُكْتَبَ لَهُ النَّجَاحُ في ميدان رَسْمِ القلم ورقْمِ الكتاب.

أولا: الصدق والاخلاص.
ينبغي أن يكون الكاتب صادقاً فيما يكتبه، نبيلاً في رسالته، لا يسرق عقل القارئ، الذي يقرأ له، إلى بيئةٍ لا تعرف من الكتابة إلا رسمها، فينحت في ذهنه الكذب والنفاق، قال تعالى:{اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، وفي رِوَايَةٍ لأحمد في «المسند» (410/1)، وأبو يعلَى في «مسنده» (245/9) بسند صحيح كان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (ان الكذب لا يصلح منه جَدٌ وَلا هَزَلٌ، ولا يَعِدُ الرَّجُلُ صَبِيَّا ثُمَّ لا يُنْجَزُ لَهُ).

وأفضل من ذلك ما رواه البخاري (6094)، ومسلم (2607) في «صحيحيهما» من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي قال: «ان الصدق يهدي الى البر، وان البر يهدي الى الجنة، وان الرجل ليصدق حتى يكون صديقاً، وان الكذب يهدي الى الفجور، وان الفجور يهدي الى النار، وان الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً».

ثانيا: وضوحُ الهدفِ وسُموُّ الغايةِ
ان تَحديد الهدفِ والغايةِ من الكتابة، عنصر مهم وأمر لازم لِمن أراد ولوج هذا الميدان، ولذا نجد من يكتب لغايَةٍ، يُجهد النفس في جمع الأفكار، وضمّها الى بعضها، لتكون خادماً لِهذا الهدف، وتحت لواء تلكم الغاية، وان فقدان الهدف فيه ضياع للهوية، وكشف لشخصيةِ ذلك الكاتب، وما علاقته وقوة معرفته بفن الكتابة الرفيع؟
ولذا.. فان أهداف الكاتب لابدَّ وأن تكون محددة الأهداف واضحة المعالم.

مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلْيَكْتُب خيراً أو ليُمْسِك

وكما ان الوضوح مطلب، فكذلك السُّمُوَّ والرفعة بِهذا الهدف من اسمى المطالب، وأن يكون هدفه تقديم الخَير لأمَّتِهِ بِمداد القلم، ومن كتب لأهدافٍ دنيويةٍ وَأُمورٍ دَنِيَّةٍ، فعزاؤنا للقلمِ والمِحْبَرَةِ والقرطاسِ، فَعَلامَ ضَيَاع الزمنِ، فأَولَى لك فأَولَى ان تجرب مواهبك في فنٍ آخَرَ، وعليك ترك القلم والكَتْبَ لأهلهِ.وعلى هذا جرى اتفاق أهل العلم والقلم، فقال الذهبي فِي كتاب الكبائر وقبله النووي والغزالي: وينبغي للانسان ان يسكت عن كل ما رآه من أحوال الناس الا ما في حكايته فائدة للمسلمين.

وروى مسلم في «صحيحه» (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عنِ النبي قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فاذا شهد أمراً فليتكلم بخيرٍ أو ليَسكُتْ».

ثالثا: انتقاءُ المُفرَدَةِ والعنايةِ بِها وفي ذلك احياءٌ وعودة الى اللغة العربية- لغة القرآن- باختيار المفردة التي لا تؤذي عينَ قارئٍ أو أذنَ سامعٍ، بل تجد قبولاً ومعالجة نفسية يعيشها القارئ.
وبشيوع المُفردةِ النَّقِيَّةِ الحَيَّةِ عِنْدَ الكَاتِبِ والقارئ، وانتشارها، نرقَى بالذوق العام للمجتمعات، وفي هذا احْتِرَامُ الكَاتِبِ لِعقْلِهِ، وانه في حال العمل علَى صَقْلِ العقل، وتسليحه بالعلم والمعرفة، وكذا مع الممارسةِ وَالدُّرْبَةِ، يِجِدُ عقلاً ذا مَخزونٍ مَعْرفِيٍّ، يَتَجَوَّلُ فِيهِ فينتقي لكل موقف مفردته، ولكل ميدانٍ كلمته.

رابعاً: السُّمُوُّ مع المتلقِّي (القارئ والسامع)
نعني كُلَّ مُخَاطَبٍ بالكتابةٍ ولو كان خصماً أو عدواً، فقد قال الله تَعَالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، وقال تعالى:{اذْهَبَا الَى فِرْعَوْنَ انَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44-43]، يقول الله تعالى: لموسى وهارون: {فقولا لفرعون قولاً لينا}، وفي ذلك توجيه بلين الجانب.والكتابة والقول مثيلان، فإن القلم أحد اللسانين، وكَاتَبَ النبيُّ  سرَى الفرس وقيصر الروم ونجاشيَّ الحبشة، بعبارات لطيفة، لعلَّهم يدخلون في دين الله وَيَدَعُونَ ما هم عليه عاكفين، كما روى البخاري (7)، ومسلم(1773) في «صحيحيهما» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ثم دعا بكتابِ رسول الله   فقرأه فاذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله الى هرقل عظيم الروم».وباحترام القارئ وَمُخاطبةِ عقله بِهدوءٍ قد يَبْلُغُ العلاجُ موضعه، فيكون القبول.

خامسا: والعلم والمعرفة
وفي هذا أمران:
(1) على كل من تصدى للكتابة ان يكون لديه قاعدة من العلم والمعرفة.
(2) ان يحسن الجمع بين تراكيب الكلم ومفرداته، وضم معلوماته، ويقوم علَى توجيهها ووضعها في مَكَانِها الذي جُعِلَتْ لَهُ.

سادساً: التَّأَدُّبُ مع المخالفِ
وهنا التُّؤْدَةُ وعدمُ الغضبِ والتعصب في الرَّدِّ، أمرٌ مطلوب، ووصف عزيز، ونظرٌ مرغوب، فان بالرِّفقِ والتُّؤْدَةِ يتَسنَّى للكاتب وضع كل حرف في موضعه، وقد روى الترمذي في «سننه» (2010)، وعبد بن حميد في «المنتخب من مسنده» (183/1) ما صح عن عبدالله بن سرجس المزني قال: ان النبي  قال: «السمت الحسن، والتؤدة، والاقتصاد، جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة».

والكتابة بغضب عند معالجة الأمور، وفي حال الردود علَى المخالف، قد يغلقُ العقل، ويَزِلُّ القلم في اختيار تراكيبه، وجمله، ومفرداته. 

كتبه/
د.عبدالعزيز بن ندَى العتيبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق