كتب فضيلة الشيخ
عبدالوهاب خلاف في مجلة "لواء الإسلام" بعددها الصادر في غرة جمادى الأولى سنة 1373 مقالاً
بعنوان: (ما ليس تشريعاً من أقوال الرسول وأفعاله) يذكر فيه أن للرسول –صلى
الله عليه وسلم- صفتين:
-صفة أنه فرد
من الناس وأنه بشر، تقتضي طبيعته كل ما تقتضيه البشرية.
-وصفة أنه
رسول الله يوحى إليه من ربه ويبين للناس ما نزل إليهم.
فكل ما صدر
عنه من أقوال وأفعال بوصف أنه بشر فليس تشريعاً عاماً ولا يجب الاقتداء به فيه،
وما صدر عنه بوصف أنه رسول الله فهو تشريع عام وعلى المكلفين اتباعه في كل حال.
وقد بنى فضيلته على تلك
التفرقة بين هاتين الصفتين التفريعات الآتية:
1 ما روي عن رسول
الله –صلى الله عليه وسلام- من أقوال وأفعال في أكله
وشربه ولبسه ونومه وركوبه وقعوده ونحوهذا مما صدر عنه بمقتضى الطبيعة الإنسانية
فليس تشريعاً عاماً ولا يُفرض على المسلم أن يقتدي به فيه.
والناظر في هذا التفريع يعجب لأستاذ الشريعة الإسلامية كيف أتى بها قضيةً
كليةً تتناول سائر الأقوال والأفعال التي صدرت عن الرسول في هذه الشئون، وكيف حكم
عليها جميعاً بأنها ليست هدياً ولا تشريعاً واجبَ الاتباع.
وإذا كنا لا نستطيع أن نجاري فضيلته في هذه البراعة الفقهية فليسمح لنا
مشكوراً أن نورد له بعض هذه الأقوال والأفعال التي تضمنتها كليته، ونسأله عما إذا
كان يعتقد فيها أنها ليست سننا تتبع ولا هدياً يؤم.
فمثلا:
كان من هديه –صلى الله عليه وسلم- في الطعام والشراب:
أنه يسمّي الله في ابتدائهما، ويحمده بعد الفراغ منهما، وكان يغسل يديه قبل
الأكل وبعده، ويأكل بيمينه، ويأكل مما يليه، ولا يأكل الطعام حاراً، وكان إذا شرب
لا يتنفس في الإناء ونهى عن ذلك، وكان لا يشرب قائماً ولا متكئاً، ويجلس على
الطعام مستوفزاً فير متربع إلخ.
وكان من هديه في لباسه:
أنه إذا لبس ثوبه سمى الله –عز وجل- وإذا كان الثياب جديداً قال: (الحمد لله الذي
كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة) وكان يحب من الثياب الأبيض، وندب
أُمّته إلى لبسها، وكان يقصر ثيابه، ونهى عن جرِّ الثياب خيلاءً، وكان قميصه إلى
الرسغين، ونهى عن لبس الخميصة والمزعفر، ولم يكن يلبس هذه الأقبية المفتوحة، ولا
هذه الجُبب ذات الأكمام الطويلة الواسعة، ولا هذه العمائم المصقولة المشدودة، وكان
له حلل يلبسها إذا قدمت الوفود، ويشهد بها الجمعة والعيد، وكان يكره من أصحابه أن
يحضروا إلى الجمعة بثياب المهنة، ويقول: (ماذا على أحدكم أن وجد سعةً أن يشتري له
ثوبين سوى ثوبي مهنته يحضر بها الجمعة).
وكان إذا مشى تكفّأ، كأنما ينحدر من صبب، وكان مشيه هوناً،
ولم يكن يلتفت يمنة ولا يسرة بل كان يقصد مشيه.
وكان إذا اتى مضجعه اضطجع على
جنبه الأيمن، وذكر الله –عزوجل- بمثل قوله: (اللهم بك أضع جنبي وبك أرفعه، وبك
أحيا وبك أموت وإليك النشور)، وقد أمر بعض أصحابه بذلك أن يناموا على جنبهم
الأيمن، وعلمهم أذكاراً يقولونها عند النوم.
فما رأي فضيلتكم في هذه الأقوال والأفعال التي ذكرتها وغيرها مما لست
أذكره، وهو كثير، فد تكلَّفَت ببيانه كتب السنن، هل ترونها هدياً وخير الهدى هدى
محمد –صلى الله عليه وسلم-، أم لايزال فضيلتكم مُصِراً على
أنها عاداتٌ، وأنّ تركها وفعلها سواء؟
وإذا كانت هذه الشؤون كلها عادات وهي معظم أحواله –عليه السلام-
فكيف كان لنا في رسول الله أسوةٌ حسنة؟
ولماذا أتعب المُحَدِّثون أنفسهم في تخريج الأحاديث المتعلقة بها حتى
أفردها بعضهم في كتب خاصة؟
ولماذا لم تقترح فضيلتكم إلغاء هذه الأبواب من كتب السنة؟
وهل يستوي لدى فضيلتكم من يتمسك بهذا الهدي النبوي الكريم ومن يتقلّد عادات
الغرب فيُرَبِّي الأظافر ويأكل بالمياسر ويلعب بالكلاب ويطيل الشوارب ويحلق اللحى
..إلخ ؟
وعلى ذِكر اللحى، أحب أن أسأل فضيلتكم كيف ساغ لك أن تقول: إن توفير اللحية ليس من السنة فتخالف بذلك إجماع أئمة
المسلمين!
وكيف ساغ لك أن تضرب ذلك مثلاً تستدل به على أنّ بعض التشريعات ليس عاماً
في كل زمان!
أتسمح لي فضيلتك أن أنقل إلى القراء نص عبارتك التي تعتذر بها عن نفسك وعن
أمثالك من الشيوخ الحلقاء. ألست تقول: (خذ مثلاً آخر: روى
البخاري عن ابن عمر أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "خالفوا المشركين،
وفروا اللحى واحفوا الشوارب" ومعنى توفير اللحية تركها
موفورة، ومعنى احفاء الشوارب قصها لتكون محاذيةً حافة الشفة، وعبارة الحديث تشعر
بأن طلب توفير اللحى واحفاء الشوارب ليس ديناً ولا تعبداً وإنما هو لمخالفة
المشركين، فهو أمر زمني دعا إليه الرغبة في أن يكون المسلمون على غير زي المشركين،
ولو بدلت الحال لتبدل الأمر، فمثل هذا ليس أمراً دينياً، ولا هو تشريع عام
للمسلمين في كل زمان).
هكذا يفهم فضيلته أنّ الأمر في الحديث أمرٌ زمني دعت إليه رغبةٌ عارضةٌ وهو
فَهْمٌ لم يسبقه إليه أحد، فسبحان المعطي الوهاب، على أننا سنجازي فضيلته وسنعتبر
الأمر في الحديث معلل بالرغبة في المخالفة، ولكن ما رأيته في نفس المخالفة، هل
الأمر بها باقٍ أم نُسِخَ؟
وإذا كان باقياً ولابد ومن المعلوم أن أهل الأديان الأخرى الآن سوى شرذمة
قليلة منهم يحلقون لحاهم ويعتبرون ذلك مدنيةً وتحضراً، أفلا تقتضي هذه المخالفة أن
يرجع المسلمون إلى توفير اللحى واحفاء الشوارب تحقيقاً للمخالفة المأمور بها، أم
ماذا يكون؟
لا يا أستاذ الشريعة، لقد جانبك في هذا المقال ما عهد فيك دائماً من سداد
القول وفصل الخطاب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق