أسباب اختلاف الفقهاء
لفضيلة الشيخ / عبدالرزاق عفيفي –رحمه الله-
نائب رئيس لجنة الإفتاء (سابقاً) ورئيس جماعة أنصار السنة المحمدية (سابقاً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد انَّ محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فمصادر التشريع الإسلامي: هي كتاب الله تعالى، وسنة رسوله محمد –صلى الله عليه وسلم- وما تفرّع عليهما من الأدلة كالإجماع والقياس، وما تضمّنه كلٌّ منهما من مقاصد الشريعة العامة وقواعدها الكلية.
إن مصادر الشريعة وما تضمّنته من القواعد العامة، أو تفرّع عنها من الأدلة الكليّة لا تنهض بالباحث لمجرّد اطّلاعه عليها، أو حفظه إيّاها، بل لا بد له إلى جانب ذلك من مَلَكة علميّة يقتدر بها على إثبات صحّتها في نفسها، وسلامة الاحتجاج بها على المطالب التي وقع النّزاع فيها، ودار الأخذ والرد حولها، والدّراية بتطبيقها على الوقائع الجزئية، والدربة على ذلك، مع معرفة أعراف الناس، وما يحيط بهم من ظروف مختلفة، وأحوال متباينة، لما لذلك من أثرٍ بين صحة التّطبيق ودِقّته، والسلامة من إدراج الواقعة في غير قاعدتها، أو إلحاقها بغير نظيرها.
ولا يسمو الإنسان بنفسه عن حضيض الأُمّية حتى يكون له من الاستعداد العلمي، والقوة الفكرية ما يمكنه من استثمار الاحكام من أدلتها التفصيلية، على ضوء قواعد الشريعة الكلية ومقاصدها العامة.
لقد بذل كثيرٌ من سلف هذه الأمة، والقليل من المتأخّرين وسعهم في استثمار مصادر الشريعة، واجتهدوا طاقتهم في استنباط الأحكام: أصولها وفروعها منها، وإن اختلفت آراؤهم تبعاً لاختلاف مناهجهم في البحث، ولاختلاف الأصول التي وضعها كل منهم لنفسه، ليبني عليها في فهمه للأحكام، ولهذا تركوا لنا ثروة علمية في التوحيد والفقه والأخلاق لم يحلم بها عهد من عهود في أُمّةٍ أخرى من الأُمم، وفتحوا لنا باب البحث، ورسموا لنا طريق لاجتهاد، ويسّروا مسالكها بما آتاهم الله من سعة الفكر، وبعد نظر، وسلاة فكرة، وحسن القصد، وقوة البيان.
لم يكن اختلاف سلفنا الصالح فيما استنبطوه من الأحكام وليد الهوى والشهوة، ولا عن زيغٍ وانحرف، ولا كان رميةً من غير رامٍ وإنما كان عن أسباب يُعذَر لمثلها المخطئ ويؤجر أجراً واحداً، ويُحمَد المصيب ويؤجر أجرين، فضلاً من الله ورحمة، والله عليم حكيم.
وأسباب الاختلاف في الأحكام كثيرة:-
منها: الإجمال في لفظ الدليل،
ومنها: التعارض بين الدليلين مع الاختلاف في الجمع بينهما، أو ترجيح احدهما على الآخر،
ومنها: اختلاف في نسخ الدليل وإحكامه،
ومنها: الاختلاف في صحة الدليل، فيصلح للاستدلال به عند جماعة، ولا تقوم به الحجة عند آخرين،
ومنها: الاختلاف في القاعدة الأصولية،
ومنها: الاختلاف في مناط الحكم،
ومنها الاختلاف في تحقيق مناط الحكم بعد الاتفاق على المناط نفسه.
إلى غير هذا من الأسباب التي كانت مثار خلاف بين العلماء، ولا ضَيْرَ عليهم في ذلك ما دام رائدهم الحق، ومقصدهم الوصول إلى الصواب، ومنهاجهم البحث البريء من التعنّت والعناد، وتجنّب المراء والجدل بالباطل، ولهذا أَنْصَف السلف الصالح بعضُهم بعضاً، واستسلموا للحقّ عند ظهوره، ولم يكن بينهم الهُراء ولا التنابز بالألقاب كما حدث بين من جاء بعدهم من الباحثين.
وقد ألّف كثيرٌ من العلماء قديماً وحديثاً كُتُباً في بيانِ منشأ الخلاف وأسبابه، من ذلك:
كتاب "التمهيد في تخريج الفروع على الأصول" للشيخ عبدالرحيم الأسنويّ، وكتاب "تخريج الفروع على الأصول" للشيخ محمود الزنجاني، وكتاب "الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف" للشيخ وليّ الله الدهلوي، وكتاب "أسباب اختلاف الفقهاء" للشيخ علي الخفيف، ثم الكُتب المؤلّفة في علم الخلاف مملوءة بتحرير محل النّزاع ببيان ما اتّفق عليه العلماء وما اختلفوا فيه، مع بيان منشأ الخلاف في محل النّزاع.
والحكم على الشيء بالخطأ او الصواب مما تختلف فيه الأنظار، وتتفاوت فيه مدارك العلماء، وليس هناك معصوم إلا من عصمه الله.
فالله المستعان، ومنه المدد والإلهام، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
[مجلة التوحيد / السنة العشرون العدد 12 صـ14] .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق