الحمد
لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فهذا
المقال الثاني والأخير -إن شاء الله- في الرد على فتوى الشيخ سالم الطويل -وفقه
الله-.
وقد
خصصت هذه الحلقة بمقابلة فتوى الشيخ سالم "بتأخير إسلام الكافر" على
كلام الفقهاء بما أن الشيخ الكريم اعتمد على رأيه في الفتوى ثم عضده بكلامٍ للشيخ
العثيمين -رحمه الله- فهم منه أنه ينصر قوله، ولعل الشيخ الكريم يعيد النظر،
ويتراجع عن قوله هذا بعد الاطلاع على كلام فقهاء المذاهب.
اسال
الله لنا وله التوفيق والسداد..
[تعليم الكافر الراغب بدخول الإسلام يكون على الفورية باتفاق]
عن أبي رِفَاعَةَ تَمِيم بن أُسَيدٍ رضي الله عنه قَالَ: انتهيتُ إلى
رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو يَخطبُ، فَقُلتُ: يَا رسولَ اللهِ، رَجُلٌ
غَريبٌ جاءَ يَسألُ عن دِينِهِ لا يَدرِي مَا دِينُهُ؟ فَأَقْبلَ عليَّ رسولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم وتَرَكَ خُطبتَهُ حتى انتَهى إليَّ، فأُتِيَ بكُرسِيٍّ،
فَقَعَدَ عليه، وجَعَلَ يُعَلِّمُنِي ممّا عَلَّمَهُ اللهُ، ثم أتى خُطبتَهُ
فَأَتَمَّ آخِرَهَا
قال القاضي عياض [544هـ]: (فيه المبادرة إلى الواجبات، إذ سأل نبيه
عن دينه، فلو تركه حتى يُتم الخطبة والصلاة لعل المنية تخترمه، ولأن الإيمان على
الفور) [إكمال المعلم بفوائد مسلم 3/ 281].
وقال
الحافظ النووي [676هـ]: (وقد اتفق العلماء على أن من جاء يسأل عن الإيمان، وكيفية
الدخول في الإسلام، وجب إجابته وتعليمه على الفور) [شرح النووي على مسلم 6/414].
وقال
تلميذه ابن العطار [724هـ]: (وقد اتفق العلماء على أن من جاء يسأل ومما يجب على
الخطيب المبادرة إليه واجتناب تركه إذا أتاه كافر من يهودي أو نصراني ونحوهما
ليسلم على يديه أن يجيبه على الفور إلى ذلك) [أدب الخطيب صـ144].
[حكم تأخير إدخال الكافر في الإسلام عند الفقهاء]
من المعلوم من الدين أن بقاء الكافر على كفره بالله أشد إثما وجرما
وفاحشة من الزاني حال زناه وشارب الخمر حال شربه للخمر، وجميع المنكرات على
الإطلاق هي دون الكفر والشرك بالله العظيم.
ولذلك اختلف الفقهاء في المسلم الذي يتعمد تأخير إسلام الكافر على
قولين:
القول الأول: يحرم تأخير إسلام الكافر، إلا في الغسل فقط على النطق بالشهادتين.
قال به الإمام النسائي وحكاه الغزالي عن بعضهم، وهو قول شاذ، وسيأتي الكلام
عليه.
القول الثاني: يحرم تأخير إسلام الكافر بحال، لغسل أو لغيره، والمُؤخِّر
لإسلامه آثم مرتكب لكبيرة من الكبائر.
قال البهوتي [1051هـ]: (ويحرم تأخيرُ إسلامٍ لغسلٍ أو غيره لوجوبه
على الفور) [كشاف القناع 1/145]
وقال النووي [676هـ]: (إذا أراد الكافر الإسلام فليبادر به، ولا
يؤخره للاغتسال، بل تجب المبادرة بالإسلام، ويحرم تحريما شديدا تأخيره للاغتسال
وغيره، وكذا إذا استشار مسلما في ذلك، حرم على المستشار تحريما غليظا أن يقول له:
"أخّره إلى الاغتسال"، بل يلزمه أن يحثه على المبادرة بالإسلام، هذا هو
الحق والصواب، وبه قال الجمهور.
وحكي الغزالي رحمه الله في باب الجمعة وجها أنه يقدم الغسل على
الإسلام ليسلم مغتسلا، قال: وهو بعيد، وهذا الوجه غلط ظاهر لا شك في بطلانه، وخطأ
فاحش، بل هو من الفواحش المنكرات، وكيف يجوز البقاء على أعظم المعاصي، وأفحش
الكبائر، ورأس الموبقات، وأقبح المهلكات، لتحصيل غسل لا يحسب عبادة لعدم أهلية
فاعله؟
وأما قول النسائي في سننه: "باب تقديم غسل الكافر إذا أراد أن
يسلم"، واحتج بحديث أبي هريرة أن ثمامة انطلق فاغتسل ثم جاء فأسلم، فليس
بصحيح، ولا دلالة فيما ذكره لما ادعاه) [المجموع 2/154].
قال الشيخ العثيمين: (أمر الكافر إذا أسلم بالاغتسال، هذا إن صح
الحديث بهذا اللفظ، وكما سمعتم أن الحديث في الصحيحين: لم يأمره النبي صلى الله
عليه وسلم بذلك ولكن هو الذي ذهب واغتسل. إلا أنه لا منافاة بينهما، لأن اغتساله
قد يكون عن أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيكون في هذا الحديث دليل على
أمر الكافر إذا أسلم بالاغتسال، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء) [شرح بلوغ
المرام]
القول الثالث: أنه كافر مرتدـ لرضاه ببقاء الكافر على كفره.
قال ابن العطار [724هـ]: (ومما يجب على الخطيب المبادرة إليه واجتناب تركه إذا أتاه كافر من يهودي أو نصراني ونحوهما ليسلم على يديه أن يجيبه على الفور إلى ذلك، والحذر من تأخيره لحظة، ولو قطع الخطبة بذلك، فإنه إذا أخره لحظة فقد رضي ببقائه على الكفر لحظة، ومن رضي بذلك كفر، وصار الراضي به مرتداً، ولا أعلم فيه خلافا). [أدب الخطيب صـ144].
كما جعلها بدر الرشيد الحنفي [768هـ] من موجبات الكفر [انظر: الجامع في ألفاظ الكفر: ألفاظ الكفر صـ55].
قال الضياء الجندي [776هـ]: (ونقل ابن عبد السلام وابن راشد عن
القرافي: أن الخطيب إذا جاءه من يريد النطق بكلمة الإسلام فقال: "اصبر حتى
أقرأ خطبتي" أنه يحكم بكفر الخطيب لأن ذلك يقتضي أنه أراد بقاءه على الكفر) [التوضيح
في شرح مختصر ابن الحاجب 8/215].
وقال التقي الحصني [829هـ]: (ولو قال شخص لخطيب أو واعظ "أريد الإسلام فلقني كلمة الشهادة"، فقال "اقعد حتى أفرغ وألقنك" كفر في الحال) [كفاية الأخيار صـ495].
وقال ابن حجر الهيتمي [973هـ]: (ومن
المكفرات أيضا أن يرضى بالكفر ولو ضمنا، كأن يسأله كافرٌ يريد الإسلام أن يلقنه
كلمة الإسلام فلم يفعل، أو يقول له: "اصبر حتى أفرغ من شغلي" أو
"خطبتي" لو كان خطيبا) [الجامع في ألفاظ الكفر: الإعلام بقواطع الإسلام
صـ213].
وقال الخطيب الشربيني: [997هـ]: (تنبيه: قد علم من كلامه أن وقت الغسل بعد إسلامه لتصح النية، وانه لا سبيل إلى تأخير الإسلام بعده، بل المصرح به في كلامهم تكفير من قال لكافر جاءه ليسلم: "اذهب فاغتسل ثم أسلم" لرضاه ببقائه على الكفر تلك اللحظة) [الإقناع في حل ألفاظ متن أبي شجاع 1/65].
وقال أبو المعالي مسعود الحنفي [1109هـ]: (وكذا لو طلب كافر عرض الإسلام من واعظ، فقال له: "اصبر إلى آخر المجلس كفر الواعظ) [الجامع في ألفاظ الكفر: رسالة في ألفاظ الكفر صـ391].
ولعل الراجح من كلام أهل العلم أنه لا يكفر، بل يأثم، وإثمه عظيم وفعله
كبيرة من الكبائر.
قال الحافظ النووي: (وقد قال صاحب التتمة [يعني عبد الرحمن المتولي"478هـ"
في تتمة الإبانة عن أحكام الديانة] في باب الردة: "لو رضي مسلم بكفر كافر بأن
طلب كافرٌ منه أن يلقنه الإسلام فلم يفعل، أو أشار عليه بأن لا يسلم، أو أخّر عرض
الإسلام عليه بلا عذر، صار مرتدا في جميع ذلك؛ لأنه اختار الكفر على الإسلام"
وهذا الذي قاله إفراط أيضا، بل الصواب أن يقال: ارتكب معصية عظيمة) [المجموع
2/154].
والغرض من عرض الأقوال بيان خطورة هذا القول وشناعته، وتحذير الشيخ ومن
وافقه من الإصرار على هذا القول غير المسبوق -فيما أعلم-.
[تأخير إدخال الكافر إلى الإسلام يرفضه العقل والمنطق]
تخيل لو مررتَ بشيخ، وسائل يسأله: (يا شيخ أنا أكره والديّ، فقد
أنجباني في هذه الحياة البائسة، وهما في حالة فقر مدقع! منزلنا ضيق، وأثاثنا بال،
وزادنا قليل، فانتقمت منهما، فضربتهما ضربا مبرحا، وهددتهما إن بلغا عني لأفعلن
بهم كذا وكذا، وقد طردتهما من المنزل ولا أدري أين هما الآن).
فقال له الشيخ: (سأشرح هذا الأسبوع كتاب (بر الوالدين) للإمام
البخاري، فتعال واستفد، واسأل الله لك الهداية).
أو
قال لك شخص: أنا رافضي، أزور العتبات المقدسة، وأريد أن أكون سنيا
لأني شاك في مذهبي، لكن الشيخ فلان قال لي: إن عقيدة أهل السنة طويلة عريضة، وأنت
قبوري! تعال عندي وأنا أشرح لك التوحيد، وعقيدة أهل السنة في الصحابة وأهل البيت،
وحقيقة ما شجر بين الصحابة، وقضية العصمة والبداء والرجعة و..إلخ، ثم إذا تعلمت
واقتنعت تكون موحدا وتنطق الشهادتين عن علم ودراية، حتى لا تدخل في الإسلام الصحيح
ثم ترجع لعبادة القبور وترتد على عقبيك!
لا شك أن هذا لا يقبله عقل ولا منطق، بل إهمال ومجازفة بحال المدعو
في الحال والمآل.
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله
واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق