الأحد، 19 يونيو 2022

الحج في الإسلام (الشيخ عبدالظاهر أبو السمح)

 قال رسول اللہ  « بني الاسلام على خمس :شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، وإقام الصلاة ،و إيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا ».


فالحج أحد أركان الإسلام الخمس التي فرض الله على عباده أداءها، وما كان الله جل وعلا ليفرض على عبادهشيئاً من العبادات لحاجته إليها؛ كلا بل هو الغني الحميد، وإنما فرض العبادات على بني الإنسان تشريفاًلهم وتكريما ( ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) ( قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم )،وفي الحديث القدسي الصحيح « ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلمنكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم و إنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكممازاد ذلك في ملكي شيئا».


ومن العبادات ماجعله مكرراً في اليوم والليلة ، ومنها ما جعله كل أسبوع كصلاة الجمعة ، ومنها ماجعله كلعام مرة كالصيام ، ومنها ماجعله في العمر مرة كالحجولكل من العبادات حكم ومنافع ومصالح للعباد ،يحتاج كل منها إذا شرحناه وفصلناه لمجلد ضخم ؛ ولكنا تتكلم على ما للحج من الحكم والفوائد السياسيةوالاقتصادية والروحية والجسميةوغير ذلك إنشاء الله بمناسبة أشهر الحج وموسمه القريب.


لما ظهر الله تعالى بصفاته العليا ، وأسمائه الحسنى، لخلقه ، واحتجب عنهم بذاته ، أمر خليله إبراهيم عليهالسلام أن يبني له بيتاً في مكان من أرضه ، بعيداً عن زخارف الدنيا وزينتها، محاطا بالجبال ، قحْلًا منالزروع والثمار، لا ماء فيـه ولا شجر ، ولا بساتين ولا أنهار ، فبناه مطيعا أمر ربه ، مخلصاً له العمل ، وكانابنه إسماعيل هو وحده مساعده حتى أتمّاه؛ 

وطافا حوله ، وصليا شطره ، ودعوا الله عنده، قال تعالى(وإذ يرفع إبراهيم القواعد من الليت وإسماعيلربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ‏۝ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكناوتب علينا أنك أنت التواب الرحيم ‏۝ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك و يعلمهم الكتابوالحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم).


وقد أخبر الله تعالى أن هذا البيت الكريم الذي بناه بأمره خليله ابراهيم هو أول بيت وضع للناس فقال عزمن قائل (إن أول بيت وضع للناس للذي بيكة مباركا وهدى للعالمين ‏۝ فيه آيات بينات مقام ابراهيم ومندخله كان آمنا).


وقد أمر خليله  بأن يدعو الناس إلى حجه فقال (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامريأتين من كل فج عميق ‏۝ ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على مارزقهم من بهيمة الأنعام)

وقد فعل ابراهيم عليه السلام وصدع بأمر ربه، وأذن حتى أسمع الله أذانه كل من شاء له أن يحج الى يومالقيامة.


أما المنافع التي ذكرها الله تعالى في قوله (ليشهدوا منافع لهم) فهي كثيرة جداً.

ونحن نقص عليك منها ما ييسر الله وما يفتح به:-


المنافع الروحية:

كل محب يشتاق دائما لرؤية حبيبه ولقائه ، و يحب زيارته ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإن عز الوصول إليه؛وتعذر عليه لقاؤه ورؤيته، تسلى برؤية آثاره، والأشعار في ذلك كثيرة.


منها قول بعضهم

أمر على الديار ديار ليلى ..

أقبل ذا الجدار وذا الجدارا 

وما حب الديار شغفن قلبي..

ولكن حب من سكن الديارا 


ويقول آخر :

يا دار مية بالعلمياء فالسند..

أقوت وطال عليها سالف الأمد


وقول ابن الدمنبة:

سلى البانة الفنّاء والأبطح الذي..

به الما ، هل حيث أطلال دارك؟


وقوله :

عجنا على دارها نبكي ونسألها..

عنها ونسألها عن بيننـا خطبـا

دار لأسماء إذ حن الفـؤاد بهـا..

ولا تنول إلا الشوق والطربا


وإذا كان الشعراء وغيرهم من المفتونين بحب الصور الجميلة يتغنون بوصفها ويذهبون في حبها مذاهبالعبودية، فالمؤمنون أشد حبا الله ، وهم أحرص الناس على رؤية بيته ، والقيام في مقام خليله عليه السلام،والطواف حوله حيث طاف أنبياؤه وأولياؤه الصالحون ، وعباده المتقون.


فاذا رأى المحبون لله بيتَ ربهم فلا تسل عن أنهار دموعهم كيف تجرى، ولا عن حميّا أشواقهم في أجسامهمكيف تسري، فهنالك عند بيت ربهم ومعبودهم الواحد الجليل الكبير الكريم يقفون على بابه وقد علا نحيبهم،ورفع لسان الحال صحيفة ذنوبهم، وسِجِل حوائجهم، فماينصرفون إلا بتوقيع المغفرة، وقضاء مطالبهم ،ولولا ثقل الأجسام لطارت النفوس منها إلى الرب جل جلاله شوقا إليه، وحباً له


إنها لا تشبع من رؤية بيت الحبيب ولا الطواف حوله، ولا الوقوف على بابه، وإنها لتشعر بأنوار تغمرها،وسرور يهزها، وفرح يذهلها عن كل شيء إلا عن ربها و بارئها، ومهما أوتي البلغاء من قوة البيان فهمعاجزون عن وصف ما تجده النفوس المؤمنة بربها عند بيته والطواف حوله.


 ولما اقتضت حكمة الله أن يحتجب عن خلقه؛ وعلى ما يكون بهم من شوق إليه وحبٍّ له ؛ جعل له بيتاً حيثشاء من أرضه، وقال لخليله ابراهيم عليه السلام (وطهر بيتى للطائفين والعاكفين والركع السجود) أليس فيهـذا من الشرف العظيم للطائفين والعاكفين والركع السجود ما يسلي عن الدنيا وزينتها ، ومليكها وزخارفها؟


الله أكبر ! يأمر الرب جل جلاله خليله أن يطهر بيته لوفود بيته، وزوار حرمه، الطائفين والعاكفين فيه والركعالسجود ، ياله من كرم إلهي؛ و يالها من عناية ربانية


يطوف العبد حول بيت ربه وقد ملأ الأُنس به قلبه، وزكت روحه ، يمثل بهذا الطواف سبع مرات فعل المحتاجالمضطر، والفقير المُلحّ؛ وكأنه يقول : مالي عن رحابك منصرف، ولا عن بابك تحول حتى تقبلني؛ وتتوبعليّ وتغفر لي، وترضى عني، ولئن لم تَقْبلني فمن غيرك يقبلني؟ وإن لم تغفر لي فمن سواك يغفر ليذنبي، ويقبل عثرتي، ويمحو زلتي، والله يحب الملحّين في السؤال والدعاء.


ثم يقف في مقام خليله فيصلى ركعتين بسورتي الاخلاص [قل يا أيها الكافرون - وقل هو الله أحد] ثمينصرف فيستلم الحجر الأسود، وكأنه بهذا الاستلام عاهد ربه، وصافح يمينه -وكلتا يدي ربنا يمين-سبحانه عن سمات المخلوقين


ثم يخرج إلى الصفا فيذكر الله تعالى و يدعوه، و يسعى إلى المروة، ذاكراً الله تعالى داعيًا سبعة أشواط؛فيتذكر بذلك سعى هاجر أم إسماعيل -عليهما السلام- حين كانت راغبة إلى الله وحده، ضارعة إليه، راجية أنتجد ماءً لري ظمئها وظمأ ابنها، وقد كادا يهلكان، فما كادت تفرغ من سعيها ودعاء ربها حتى أنبط الله لهاالماء بجانب البيت، فشربت وسقت ابنها، وحمدت الله تعالى.


ونحن في حجنا نمثل هذا الدور وما كانت سيدتنا هاجر المصرية أم اسماعيل -عليه السلام- في حاجتهاواضطرارها إلى الماء ، بأحوج منا والله ولا سيما في هذا الزمن إلى قطرات من رحمة يطهر بها نفوسنا ،ويشفي أمراضنا الخلُقية والاجتماعية التي أودت بنا، وجعلتنا عمالا للدول المستعمرة، وخدماً لعلوجالأعاجم.


فهذا الطواف والسعي بين الصفا والمروة المقصود منه ذكر الله تعالى، ولو لم يكن في ذلك السعى إلا طاعة اللهورسوله والتأسى بخير الخلق لكفى.


وفى يوم التروية يخرجون إلى منى فيبيتون فيها، ويصبحون آمّـين عرفات، بعد طلوع الشمس، وان ورودالناس إلى هذا الموقف، واجتماعهم محرمين، متجردين من كل شيء، إلا ما حملوا من زاد؛ ووقوفهم عاريةرؤسهم، ضاحين في الشمس ، يدعون ربهم تضرعا وخفية، في اختلاف ألسنتهم ولهجاتهم وأجناسهم ـ لمُذكِّربيوم الحشر، وماح ما بينهم من فوارق، ومعيدهم إلى بساطتهم الأولى، و باعث فيهم روح المحبة والمودة،فإن اتحاد الناس في عملٍ ما له تأثير في النفس يعرفه العلماء، فكيف إذا كان اتحاداً في عبادة معبود واحدفي زيٍّ واحد، وقول واحد، في مكان واحد؟

لاريب أنه يكون له أعظم تأثير في تنمية العواطف الدينية والمحبة المِلِّية التي هي فوق كل محبة(إنماالمؤمنون اخوة).


فهنالك في هذه المواقف ترى معنى هذه الأخوة ،و يشعر بها كل مؤمن ذاق حلاوة الإيمانولهذا لما علمالإفرنج فوائدها الروحية والاجهادية عملوا على تكثير العقبات، و بثها في طريق المسلمين للحج ـ من دونالناس، ودون سائر الطرق.


 ولم يكن إبليس في يوم أغيظ منه في يوم عرفة، لما يرى من اتجاه المسلمين كلهم إلى خالقهم، يرجون رحمتهويدعونه راغبين فيما عنده من مثوبة، وقد تجلى تعالى ،ونزل إلى سماء الدنيا و باهى بهم الملائكة ، وقدطهرهم من ذنوبهم التي طالما دنسهم بالوقوع فيها شياطينهم، فعادوا فرحين مستبشرين.


وما هي إلا برهة يسيرة حتى وافوا مزدلفة، فحطوا فيها رحالهم، وجمعوا بين صلاة المغرب والعشاء، وباتوابها ليلتهم ،حتى إذا اقترب الفجر قاموا وتطهروا وصلوا الصبح ودعوا ربهم ؛ وناجوه بكل مطالبهم ،وجمعوا جمراتهم ، وهي حصيات دون البندقة وفوق الحمصة


ثم قاموا الى منى قبل طلوع الشمس، ورموا جمرة العقبة.


وفي هذا من المشاق السهلة ما يمرن على جهاد الأعداء، والنزول منازل الأبرار الأتقياء، وأن الدنيا هكذا : حلوارتحال.


 وفى رمي الجمار معنى سامٍ، وذلك أنه رمز لرمي الشيطان الرجيم وإهانته، وفيه دلیل عملي على الزهد فيالدنيا وكراهيتها والإقبال على الآخرة؛ وقد كنتُ أسمع من عوامنا في الأرياف اذا أراد أحدهم مفارقة أحدواليأس منه « رمينا طوبته » ونفضنا يدنا منه ، ونحو ذلك، فرمي الجمار فيه هذا المعنى.


ومعنى آخروهو تعليم الجهاد والحث عليه، فإن الحروب كلها مبنية على الرمي ، من عهد بدء الخليقة إلىاليوم؛ ولذا يقول رسول اللہ : « ارموا يا بني اسماعيل، فان أباكم كان رامياً».


ولما كان كيد إبليس ضعيفاً ، وقال الله فيه (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) وقد عرض في هذا الموقفلابراهيم -عليه السلام- حين أمر بذبح ابنه ، لم يرد أن يرميه إلا بهذه الحصوات الصغيرات احتقاراً له، وعدمعناية به.


وبعد هذا الرمي لجمرة العقبة يوم النحر يحلق رأسه، ويذبح هديه، ويلبس ثيابه، ثم يذهب إلى بيت ربهفيطوف به كما طاف أول مرة، ويسعى بين الصفا والمروة إن لم يكن يسعى أولًا، وإلل فيكفيه السعي الأوللسنة المصطفى .


فما تجد الأرواح المؤمنة لذة في عمرها أحسن ولا أفضل من هذه اللذة التي وجدتها في عبادة ربها تلك الأيامعند بيته المشرّف؛ وتلك المشاعر العظيمة.


واما الفوائد الجسمية فلا ريب ان العمل والسفر والحركة يزيد الجسم قوةً ونشاطا؛ وحسْب الإنسان شعورهبأن هذا النصب في رضا المحبوب الأعلى


وأما الفوائد السياسية والاجتماعية فنتكلم عنها في فرصة أخرى إن شاء الله.


——————————————————


مجلة الهدي النبوي/ جـ1 / العدد(8)/ صـ12-17.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق