سُئل علامة الصعيد الشيخ أبو الوفاء محمد درويش -رحمه الله- في "باب الفتاوى":
سمعتُ عالِمًا يلقي درسًا في القاهرة على جماعة من الناس، ومما قرره في درسه: (أننا إذا نظرنا إلى المذنب بعين الحقيقة عذرناه، وإذا نظرنا إليه في عين الشريعة مقتناه) فهل لهذا القول نصيب من الصحة؟
فـأجاب:
(ليس للتفريق بين الشريعة والحقيقة نصيب من الصحة ولا ظِل من الحق، بل هو باطل مجانب للحق بعيد عن الصواب، وإنما يقول به أولئك المفتونون من المتصوفة الذين يفرّقون بين الشريعة والحقيقة، ويرون الحقيقة شيئًا مُغايرًا للإسلام، ويحتجون بما كان من الخَضِر -عليه السلام- مِن خرق السفينة وقتل الغلام، إذ هو مغاير لشريعة موسى -عليه السلام- فاعتبروه حقيقةً مخالفة للشريعة، وعدَّوه عِلمًَا باطنًا مُخالفًا للعلم الظاهر الذي علمه الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
والحق: ما كان عليه موسى -عليه السلام- شريعةً وحقيقةً، وما كان عليه الخضر شريعة وحقيقة، لأن الخضر لم يفعل ما فعله عن أمره إنما كان يوحى من ربه بدليل قوله تعالى: (وعلّمناه من لدنا علمًا) غير أن شريعة الخضر كانت مغايرة لشريعة موسى في تفصيلها وفروعها، موافقةً لها في أصلها، فجميع ما فعله الخضر كان مشروعًا لا إثم فيه، ولا تثريب على فاعله.
والعِلم الباطن لا وجود له إلا في مُخيّلة هؤلاء المفتونين، ولقد سئل الإمام علي -رضي الله عنه- وهو الذي يزعمون الانتماء إلى إرشاده وتعليمه: هل اختصه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشيء من العلم، فأنكر ذلك غاية الإنكار، وتنصَّلَ منه غاية التنصل.
ولولا وجوب حسن الظن بالمسلمين وحمل كلامهم على وجه يحتمل الإيمان لقلنا إن التفريق بين الشريعة والحقيقة كفر؛ لأن الحكم على الشريعة بأنها مغايرة للحقيقة حكم بأنها باطلة، أو الحقيقة هي الحق والحق حقيقة الأمر، وما خالف الحق فهو باطل.
فالحكم على الشريعة بأنها باطل أو مغايرة للحق كفرٌ بواحٌ عندنا من الله فيه برهان، والحق الذي لا شك فيه أن الشريعة والحقيقة والطريقة شيء واحد، وإن اختلفت مفهوماتها، فالشريعة هي الملة التي شرعها الله ليسير عليها الناس في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم، وهي الحقيقة، وما سواها مما شرّعه الناس ولم يأذن به الله باطل، والطريقة هي الصراط المستقيم الذي علَّمَ اللهُ عبادَه أن يسألوه الهداية إليه وهو الدين الحق الذي شرعه في كتابه وفي الصحيح من سنة رسوله (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).
وأيَّةُ حقيقة تلك التي تعذر الكافر والمشرك والمنافق والفاسق والمجرم وكلهم خارج على أمر الله مبارز له بالمعصية.
ولكن المتصوفة لهم شريعة خاصة تُطَوِّع للناس على المعاصي على اختلاف أشكالها، وتوهمهم بسقوط التكاليف عنهم، وتحكم بالإيمان على من حكم الله عليه بالكفر.
وهذا ابن عربي من شيوخهم يحكم بإيمان فرعون، وإيمان قوم نوح ومن على شاكلتهم.
قال في باب السابع والستين بعد المائة من كتاب "الفتوحات المكية" في تفسير قوله تعالى: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) ما يقيه:
فتكون النجاة لمن يأتي بعدك آية، أي علامة إذا قال ما قلته تكون له النجاة كما كانت لك ... إلى أن قال: فصار الموت له شهادة خالصة بريئة لم تتخللها معصيته؛ فقُبِضَ على أفضل عمل وهو التلفظ بالإيمان -كل هذا حتى لا يقنط أحد من رحمة الله). اهـ
وقد صرح في كتابه "فصوص الحِكَم" بإيمان قوم نوح، وكثيرٍ من أضرابهم وبنجاتهم يوم القيامة.
فابن عربي الصوفي يرى فرعون شهيدًا ناجيًا، ويرى قوم نوح وكثيرًا من أضرابهم مؤمنين ناجين، مُكذِّبًا لقول الله تعالى في القرآن الكريم: (كذبت قبلهم قوم نوح المرسلين وأصحاب الرس وثمود (*) وعاد وفرعون وإخوان لوط (*) وأصحاب الأيكة وقوم تُبَّع كلٌّ كذب الرسل فحق وعيد).
من كل ما تقدم يتضح للسائل الكريم أنه لا عذر للعاصي لأنه مخالف لأمر الله ونهيه، ومَن عَذَرَهُ كان مُحادًّا لله ورسوله ومشاقًّا لشريعته.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
----------------------------------------------------
[مجلة الهدي النبوي / جـ18 / العدد 3 / صـ 32-34]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق