الجمعة، 13 أبريل 2018

الحرية الحقّة .. والحرية المطلقة (للشيخ الأديب/ سعد صادق محمد -رحمه الله-)


بسم الله الرحمن الرحيم
 
يفهم بعض الناس إن لم يكن أكثرهم- أنّ الحرية هي إباحيةٌ وفوضى، وانطلاق عالَمٌ همجي لا يعرف كيف يستعمل الحريةَ لفظاً ولا معنى، فيضعها في غير موضعها الحقيقي الذي ينبغي أن توضع فيه، ويخرج بها عن المعنى المقصود الذي يجب أن يعرفه كل إنسان، ومن ذلك خرج الفرد منهم إلى الحياة، وهو لا يعرف ما عليه من واجبات وما له من حقوق، فضاع واجبه نحو الناس، فلم يرعَ حقوقهم، ولم يحافظ عليها حتى تصل إلى أصحابها كاملةً غير منقوصة، وضاعت أيضاً- حقوقه التي ينبغي أن يُحسن استعمالها حت لا تثير تائرةَ أحدٍ، ولا تنشط فيه ناحية الغضبل إذا استعملها في الإساءة إلى غيره.
ترَكَ الإنسانُ شهواتَه تعبث بالحقوق، وتستبد أهواؤه بالواجبات حتى رسخ في ذهن أنّ الحرية هي أمور سافرة طائشة، فأصبح يأتي مِن الأقوال والأفعال ما يؤلم الغير ويقلق راحته ويسلب أمنه وطمأنينته.
والناس حين ينظرون إلى الحرية لا ينظرون إليها من نافذة الحق والعدل، بل ولا ينظرون إليها من ناحيةٍ ينبغي لكل فرد راجح العقل، سليم الفهم، بعيد النظر، أن ينظر إلى الحرية منها، بل ينظرون إليها من نافذة الغرور والفوضى والحمق والأنانية.
ينظرون إلى الحرية نظرةً سقيمة مجردة، تجعلهم يتصرفون في شؤونهم في غير حكمة ولا تعقل، ويندفعون في تأدية أعمالهم في طيشٍ وغفلة وجهل، فيقعون في المتاعب والمشاكل.
ولقد جرّ علينا أعداءً الإسلام كثيراً من الشرور والأخطار، وجاءوا لنا بما أسموه (مدنية، وحضارة، وتقدُّماً) وكانت الحرية على الصورة التي يفهمها ويعرفها الناس اليوم هي ضمن صادرات أعداء الإسلام من المدنية والحضارة.\
نعم، جاء لنا أعداء الإسلام بالحرية الكاذبة، فألبسوها أثواباً برّاقة، وأظهروها في لباسٍ لامع أخّاذ، وقدموها لنا في هذا الإطار الفَتِن الجميل، فاستغلّ الشيطانً في الناسِ حب الفعل التقليدي، والرغبة في إشباع الشهوات وتلبية النزوات، وإراضاء الأهواء، فعرف كيف يجعلها راسخة في الأذهان، متمكنة في القلوب، متشبعة بها النفوس، حتى أصبحت أنشودة أفئدتهم، بل وأصبح لا يحلو لهم العيش إلا في ظلها، ولا التمتع إلا في رحابها.
فإذا تحدث شخصٌ بشيء يمس المجموعة بالسوء، ويبلبل الأفكار، ويزعزع العقائد، ويلحق بالأفهام الضرر، إذا تحدث شخص بهذا دون أن يتقيد بأصول أو قانون أو يتمسك بأدبٍ أو حياء، ثم جئت لتناقشه وتحاسبه، عَلَت الأصوات ! وارتفعت الحناجر ! وسالت الدموع منهمرة ! وجرت الأقلام بالدفاع الحار عن الحرية المسلوبة المظلومة .. تنادي بكفاتها وتطالب بإباحة الكلام والتعبير عن الرأي والاعتقاد، واعتبر المدافعون أنّ الحساب والمناقشة قسوة وجفوة، وأمراً يتعارض مع معاني الحرية، وينافي مقتضياتها ويجافي منطوقها.
وترى شخصاً يتصرف في أموره تصرّفا أرعَناً، ويخرج فيه على كل مستساغ ومعقول، لا يهمه أحد، ولا يبالي بحقوق الغير، ما دام هو في (حرية) وما دام قد وجد في ظلها على ما يعتقد- مرتعاً لتصرفاته، وفي أرضها حياةً لحماقته، فإن شعر غيرًه بما يؤلمه ويغضبه لاذَ بكلمةِ الحرية، واعتصم بها في جهل وغفله، وجعل منها مانعاً بينه وبين كل شيء.
يتّسم بسمات الحق والعدل، فإذا عاتبه .. اعتبر هذا اعتداءً على شخصيته، وحَدّاً من حريته، وقال لك في تكبُّرٍ: إنه حُر .. ، فإنّهذا يروقه ويتّفِق مع مزاجه، وليس لأحد أن يعترض عليه لأن الحرية (المطلقة) قد منحته هذا الحق.
ولقد أباحت الحرية (المطلقة) للمرأة أن تسفر وأن تتبرج، فجاء لها الشيطان بالحرية من خلال الأصباغ ومِن بين الموديلات الحديثة، ومِن ناحية مقتضيات الحضارة والتطور، ليقضي على ما حماها به الدين من العفة والفضيلة، وما أحاطها به من الكرامة والسمو، فجعلها تبيح لحمها لشهوةِ كل جائع في الطريق، ليهتك عرضها، وتكشف عن عورتها لكل نفسٍ مريضةٍ محمومةٍ لينهش فيها، وقد يكون أمام زوجها أو ولدها فيتأبّط ذراعها. مزهوّاً فخوراً راضياً عنها.
لأن ذلك من مستلزمات الحرية، ومن مقتضيات الحضارة، فإنْ وجهتَ إليها النصح بدافع الإشفاق والتألّم، نظرت إليك في احتقارٍ واشمئزاز، وعدَّت ذلك إهانةً للحرية، بل جموداً ورجعية من قومٍ يريدون أن يَرجعوا بالدنيا، وأن يعودوا بالعالم القهقرى مئات السنين.
اعتبرت ذلك جهلاً بالحياة وعدم معرفة لسُنّة التطور فيها من قومٍ يريدون أن يعودوا بالناس إلى عهد الحجاب، وزمن القيود والأغلال، فياللعجب والدهشة من هؤلاء القوم!
لقد تقدم الناس ونهض العالم، وغدا في حضارةٍ ومدينةٍ وعصر جديد متحرر، ولكن يأتي هؤلاء القوم جامدين أمام كل تطورٍ ومنكرين لشرائعه.
ولقد أباحت الحرية للذين تلقّنوا تعاليم أعداء الإسلام أن يقلدوهم في عمىً وضلال، فما يكون من نصيبهم إلا كل ما يميت الضمير،ويقضي على الوازع الديني فيهم، وما يكون من حظهم إلا كل ما يحطم الأخلاق ويقضي على المعاني السامية والقيم الكريمة فيهم، بل وما يكون لهم من شيء إلا كل ما يعود عليهم بالشر والخيبة والخسران، فلا يشعرون بنتائج طيبة لعمل، ولا يجدون بين أيديهم أيّ أثرٍ محمودَ السعي، فيخرجون من هذا التقليد الأعمى بما يزيد الشر والشقاء في حياتهم، ويجعلها جحيما لا يطاق.
هذا شأن الحرية المطلقة وآثارها، وهذا شأن من يجرّون وراء الحرية التحللة، وشأن من يعيشون في ظل الحرية الإباحة، تلك الحرية التي لا تعرف العدل، أو أي معنى طيب جليل.
أما الحرية الحقة، أما الحرية العادلة، أما الحرية القيمة:
فهي التي تنبع من الدين الإسلامي الذي منح الحرية للناس ليسعدوا لا ليشقّوا، هي الحرية التي تبعثها الروح، وتفوح من الفضيلة.
الحرية هي..
أخلاق فاضلة وخصال حميدة يتحلى بها الإنسان، ونفس أبيَّة، تكره الظلم والعدوان لصاحبها، معاني جمّة من الأدب والذوق السليم، والتربية الصحيحة، ترتفع بصاحبها عن مواطن الغدر والأذى والتمرد.
هي قطرات من الحكمة وفيض من المُثُل العليا، والشعور النبيل بحقوق الغير واحترام إحساسه أنها استعمال للحقوق استعمالاً مشروعا لائقاً لا يضر بأحد ولا يحرج شعوره ولا يعكِّر عليه صفوه. فليس الإنسان حراً في نفسه بأن يفعل ما يشاء، ويعتقد كيفما يحلو له مادام هذا يتعارض مع حقوق الآخرين ويظهره بمظهر المسيء المعتدي.
الحرية هي .. أداء للواجب بدافع الضمر الحي والتفكير في الغير قبل التفكير في النفس.
هي العمل الذي يؤدي إلى الحب والإخاء والمودة بين الناس والتفاني في سبيل سعادة المجتمع الصالح.
وهي سياجٌ منيع، يحمي المرأة من كل ما يهدد كرامتها، ويذهب بعفتها، وينتشلها من تسفل الإثم والجحود والتمرد إلى حيث ربوة الكرامة والسمو والفضيلة، هي وقاية لكل شخص من العدوان على أخيه والظلم لنفسه.
الحرية هي معاني وحية تهبط من السماء لتسعد الناس فتسموا بأخلاقهم وترفع شأنهم وتصلح حالهم وتنشر فيهم العدل والخير وتهديهم إلى السبيل القويم.
يجب علينا أن نفهم الحرية على أنها نسمات من التعاون والإخلاص ونفحات من المعاني الجميلة الجليلة التي تدعم الوحدة بين الناس.
يجب علينا أن نفهم الحرية على أنها سبيل إلى الطاعة والرضا والقناعة ومحرك للبر والعطف والتراحم في الناس.
نعم. يجب أن نفهم الحرية على أنها نصرة للمظلوم وحماية للضعيف وردع للقوي الظالم الباطش والقضاء على الاستبداد والتحكم، لو فهمنا الحرية الحقة، فهما صحيحا، واستعملناها استعمالاً مشروعاً مقبولا لوجدنا أنفسنا بين أحضانها، وفي رحابها نستنشق ريحها الطيب ونتنسَّم عبيرها الرحيق.
ولكن ذلك لن يكون إلا إذا رجعنا إلى دين الله وعدنا إلى حظيرته وعملنا بشرائعه وأحكامه، نغترف منها ما يحقق لنا الحرية الحقة، ونأخذ منها ما نصلح به حالنا ويضمن لنا حضارة وتقدماً وتطوراً حقيقياً ورفاهية، وحياة آمنة مطمئنة.
 
*مجلة الهدي النبوي / المجلد 19 لعام 1376هـ/صـ50-53*

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق