الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فهذا آخر مقال كتبه الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله- في مجلة الهدي
النبوي، التابعة لجماعة أنصار السنة المحمدية.
ما أشد حاجة الإنسان إلى التفكير قبل الإقدام فإنه بالتفكر والتروي والتثبت
يعرف ما يضره ويؤذيه ويشقيه ، فيتقيه ويتجنبه و يهرب منه.
ويعرف ما ينفعه ويريحه ويسعده، فيقدم عليه، ويسعى في تحصيله بكل جد ونشاط،
ثم يكون حذراً في طريق سعيه إلى ما ينفعه، ودفع ما يضره، حريصاً على العلم
والمعرفة بالطريق الموصل إلى كل مما يخاف ويرجو، لأنه إن غفل ضل الطريق ، فذهب
بعيداً عما يقصد، فإن تمادى في الغفلة وصل إلى أشد ما يكره ويخاف، ولا ينجيه من
ذلك إلا يقظة التفكر واستدامته، وشدة حرصه على الاستضاءة دائما -وفي كل لحظة وخطوة
وحركة- بنور العلم الصحيح من سنن الله تعالى، وهدي كتابه الحكيم، ببيان رسوله صلى
الله عليه وسلم. فما سعد من سعد إلا بالعلم الصحيح، والتفكر فيه ـ وبه - تفكيراً
يدفعه إلى العمل الصالح بقوةِ عزيمة، وصادق إرادة ونية. وما شقي من شقي إلا بالجهل
والكسل والاستهانة بالأمور واستصغارها، وعدم التفكر في العواقب والمصائر.
قال الحسن البصري: (إن أهل العلم لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر، وبالفكر
على الذكر، ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة). [1]
وذلك: لأن التفكر يوقع صاحبه من الإيمان على ما لا يوقعه عليه العمل المجرد
من التفكر، فإن التفكر يوجب له من انكشاف حقائق الأمور، وظهورها له، وتمييز
مراتبها في الخير والشر، ومعرفة مفضولها من فاضلها، وأقبحها من قبيحها، ومعرفة
أسبابها الموصلة إليها، وما يقاوم تلك الأسباب ويدفع موجبها، والتمييز بين ما
ينبغي السعي في تحصيله، والأخذ في أسبابه، وبين ما ينبغي السعي في الهروب منه،
ودفع أسبابه. والتفكر والتروي والتثبت بيقظة، مع الاستضاءة بنور العلم الصحيح: هو
الذي يكشف الفرق بين الوهم والخيال، وبين الواقع من الحقائق الثابتة، في المقدمات
والنتائج. فإن أكثر الناس ضلالا في سعيهم: هم الذين ركبوا مطية الوهم والخيال،
والأماني الكاذبة، نتيجة تحكيم أهوائهم وشهواتهم، وتغليب سلطانهما في ظلمات الجهل،
وفي ظل الكسل والخمول ظنا -بجهلهم- أن فيها راحة للنفوس من عناء البحث والعلم
والتفكر، وتعجلا إلى المنفعة التي ظنوا -بجهلهم- أن التروي والتفكر والتثبت
يضيعها، أو يؤخرها.
فلم يستطيعوا أن يفرقوا بين الوهم والخيال، وبين السبب الحقيقي المانع لما
يخافون ويتقون، أو المؤدي لما يودون ويطلبون، فاشتغلوا بالوهم والخيال، وانصرفوا
عن الأسباب الحقيقية الواقعية، فما قطع العبد عن كماله وفلاحه وسعادته العاجلة
والآجلة، قاطع أشد ولا أفظع من الوهم الغالب على النفوس الجاهلة الجزعة الهلعة،
والخيال الذي هو مركبها، بل بحرها الذي لا تنفك سابحة فيه. وإنما يقضى على هذه
الأوهام والخيالات -الناتجة من الجهل والغي والاستعجال- بالعلم الصحيح، والفكر
الصادق اليقظ، والعزم القوى، والإرادة الحازمة الرشيدة.
فإن العلم الصحيح والفكر اليقظ، والإرادة الحازمة الراشدة، والعزم الثابت:
يميز الإنسان العاقل الحكيم بين الوهم والخيال والأماني الكاذبة، وبين الحقيقة
الثابتة في نعم الله عليه بمزاياها وأوضاعها، والأمل الصادق في الانتفاع بها على
ما يحب ربنا ويرضى له. فيسعى سعيه إلى أمله على بصيرة وهو مؤمن، فيناله ويحصل
عليه، وقد فاز وأفلح في سعيه، واتقى كل ما يكره، واقتحم بصبره وثباته كل عقبة.
فظفر بالمأمول الصالح واكتسب قوة جديدة في تفكره.
وهكذا المؤمن العاقل الصابر الشاكر، إذا فكر في عواقب الأمور، وتجاوز
-بتفكيره- مبادئهاو مقدماتها ، إلى نتائجها وعواقبها: وضعها مواضعها، وعلم مراتبها
في النفع والضر، والخير والشر، والإسعاد والإشقاء، فاتقَى الشر وسارع إلى الخيرات،
فإذا ورد عليه وارد الذنب، وما فيه من متعة ولذة عاجلة مزعومة، تجاوز لذته ومتعته
الوهمية، وفرح نفسه البهيمية به، إلى سوء عاقبته، وما يترتب عليه من التسفل
والصَّغار، والسقوط منعين الله ربه، والوقوع في براثن عدوه وشبكته، وما يتولد عن
ذلك في القلب من ظلمة وقسوة، وما يجلب له من خيبة وحسرة، وتأخر عن ركب أولياء
الرحمن الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإنهم تخلصوا من معوقات البهيمية،
وأعانهم الله بهدي الفطرة، وهدي الكتاب العزيز، والسنة النبوية على اتخاذها مطية
هيئة طيعة.
والذنب إنما يقدم عليه من لم يحسن الانتفاع بهدي الفطرة، وهدي الكتاب
والسنة ، فيُغَلِّب بهيميته الطينية على إنسانيته الكريمة التي نفخ الله فيه روحها
منه. ومن ثم سمي (ذَنْباً) لأن الذنب هو أبرز خصائص البهائم، وأظهر صفاتها.
وكلما كثرت الخطوات الضالة وتتابعت، كلما كان منها (الخطايا) التي تدسس
المُذنب الخطاء في غمار البهيمية، وتمكن السلطان العدو المضل المبين، وجنده من
الهوى والشهوة والنفس الأمارة.
وكذلك إذا ورد عليه وارد التهاون في طلب العلم النافع: من كتاب الله وتدبر
آياته، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما حاول عدوه أن يهون عليه ذلك،
بإيهامه أن في ذلك مشقة وتعباً، وتعرضاً للمخاطر، وشغلاً عن السعي إلى المعاش
وحظوظ النفس، وأنه ليس بسبيل ذلك، ولو حاول، فالطريق طويل طويل، والشقة بعيدة
بعيدة.
وكذلك إذا ورد عليه وارد التكاسل عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله
عليه وسلم، والقيام بحقوق العبادة والعبودية بما حاول عدوه من شياطين الإنس والجن
تهوين ذلك وتزيين التكاسل عنه، وعن فعل الخيرات: بقلة المشاركين، وأنهم -مع قلتهم-
من الطبقات الدون، وأنهم يتكلفون من المشاق والمتاعب في أجسامهم مما يصيبهم من نظر
الطبقات المتمدنة إليهم نظرة الازراء والتنقص، ومما يسمعون منهم من الهزء
والسخرية، مما يكون له أثر، أو آثار، على أسبابهم المعيشية.
وإذا ورد عليه وارد وسوسة من عدوه من شياطين الإنس والجن، من احتقاره نفسه
وتصغيرها، وأصغت إليها نفسه الأمارة: أن في الدعوة إلى إخلاص الدين والعبادة
ـبجميع أنواعها- الله وحده، والكفر بكل معبود سواه والبراءة منه، والطاعة لله ثم
لرسوله صلى الله عليه وسلم فيتلك الدعوة من مخالفات الناس، والخروج على المألوف
الموروث عن الآباء والأجداد من أزمان غابرة طويلة، وأن في ذلك من التعرض لمقتهم
وكيدهم ما لعله يصل إلى القتل دفاعاً عن دينهم وعقائدهم وآلهتهم التي يحبونها كحب
الله، ويبذلون في نصرها النفس والنفيس، وقد صنعوا بإبراهيم وإخوانه المرسلين عليهم
الصلاة والسلام، ما سجله الله في كتابه العزيز.
وأين أنت من أولئك المصطفين الأخيار، الذين كان الله معهم يؤيدهم وينصرهم،
ويدفع عنهم كيد عدوهم ، حتى يبلغوا رسالاته؟ فمالك ولهذا البلاء الشديد؟ عليك
بخويصة نفسك، ودع عن كأمر العامة، فلو شاء الله لهداهم.
وهذه الواردات - وغيرها كثير - لا
بد أن يغزو بها العدو المضل المبين وحزبه النفوس الأمارة، ويدخل بها إليها من طريق
الهوى والشهوة، ما دامت الحياة بفتنتها وامتحانها، ولا عاصم منها، ومن تزيين
الشياطين بها، إلا بالاعتصام بحبل الله المتين، والاستمساك بعروته الوثقى في كلو قت
وحين، وفى كل نفس وحركة وفي كل سكون، لتستيقظ وتقوى نفسه اللوامة، ويحيىويسلم قلبه
ولبه ويقوى، فيتحكم سلطانه العادل على النفوس والجوارح كلها، فيأخذها بالعدل
والقسط، ويؤدي كلٌ منها عمله نافعاً له ولإخوانه، معينا للجميع على الصبر والشكر، ويكون
العبد بذلك وسطاً، كما أحب الله تعالى له.
فإن المؤمن الصادق الإيمان، الناصح لنفسه، الصبار الشكّار، لا يخطو خطوة
إلا بعد التفكر اليقظ، وتطبيق علمه الصحيح -من هدى الله في آياته الكونية، وآياته
القرآنية، ومن هدي رسوله وسيرته- ويربط خطوته الحاضرة بخطواته الماضية، وبخطوته
الآخرة، وبالتثبت -على نور العلم والهدى- فيما ستكون عليه هذه الخطوة، وما ستأخذ
من الأولى، وما ستعطى الآخرة، حتى ينتهي إلى الآخرة الأخيرة، إلى السؤال الشديد،
والحساب المسير، والجزاء الأوفى، يوم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون، فيكون من
الآمنين.
والفكر هو إحضار علمين في القلب يثمران له علماً ثالثاً: مثال ذلك: إذا
رأيت في قلبه العاجلة ومتاعها المنقطع، ولذتها الناقصة، وزوالها العاجل (وما أوتيتم
من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها) ثم رأيت الآخرة ونعيمها الذي هو أبقى وأديم
(وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون) وجزم بهذين العلمين، وأيقن بهما يقينًا لا
يخالجه شك، ولا يحوم حوله ريب: أثمر له ذلك علمًا ثالثًا، هو أن الآخرة: خير
وأبقى، وأن الأولى له والأحرى به: أن يركز همه كله وسعيه كله إلى الآخرة، ويجعل
أُولاه ودنياه قنطرة يعبر عليها إلى هذه الآخرة. وهذا هو شأن العاقل الرشيد الناصح
لنفسه.
ثم له في الآخرة حالتان، إحداهما: أن تأتيه هذه المعرفة عن طريق التقليد
والسماع من غيره. فلا يبشر قلبه برد اليقين بها، ولا يمضي قلبه إلى مكافحة حقيقة
الآخرة والاطمئنان إلى أنها وعدت بحق لا محالة واقع، بل هو مقلد لغيره، يقول مثل
ما يقولون بلا فهم ولا تعقل فتداخلها الشكوك، وتغلب عليه الأماني الكاذبة (ليس بأمانيكم
ولا أماني أهل الكتاب) وهذا حال أكثر الناس.
وفي غمرته دخلت العقائد الزائفة والأوهام والخرافات والخيالات التي لن يكون
لها حقائق ولاوجود، واتخذوا الشفعاء والأنداد من دون الله، ولعب الدجاجلة لعبتهم
التي أغرقت القلوب فيخضم الأوهام والخرافات والخيالات، ودفعتهم جارفة إلى القول
على الله بلا علم، وإلى سوء الظن بالله فجعلوا له من الصفات ما يكرهونه لأنفسهم
ومن حكامهم، وسبحان وتعالى عن الظن بهم.
وعندئذ يتجاذب القلب داعيان؛ أحدهما: داعي الدنيا العاجلة وإيثارها، وهو
أقوى الداعين عنده لأنه مشاهد له محسوس بكل حواسه البهيمية النهمة.
كذلك: داعي الأخرى الآجلة، وهو أضعف الداعيين عنده، لأنه من تقليد وسماع،
لم يبشر علمه ومعرفته قلبه، فلم يباشر قلبه برد اليقين به، ولا كافحه حقيقته
العلمية الواقعية، فلم يذق حلاوة الإيمان به، ولم يطمئن قلبه إليه، وإلى ما وعد
الله تعالى فيه، وعندئذ يغفل عن الآخرة، ويتهاون بها، ويكلها إلى ما خدعه به
الخادعون من أولياء الشيطان، مما قعدت بأكثر الناس من سعى للآخرة في الطريق الذي
سمى تلله تعالى في كتابه، وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا إليه على
بصيرة، وحذر أشد التحذير من الزيغ عنه.
فقد أخرج الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم - وصححه - عن عبد الله بن مسعود
رضى الله عنه قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده، ثم قال: (هذا سبيل
الله مستقيماً)، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: (وهذا السبل ليس
منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه)، ثم قرأ (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا
تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).
فإذا ما حاد عن هذه الجادة. وسلك غير هذا السبيل القاصد أوهمه شيطانه
وحزبه، بل وأوهمه نفسه أنه ترك معلوما لمظنون، أو متحققا لموهوم، وأنه بذلك قد
اختار لنفسه ما هو أنفع لها، وأجدى عليها.
وهذه الآفة هي التي قعدت بأكثر الناس من العلم النافع والعمل الصالح،
وصدتهم عن السعي إلى الآخرة على السبيل القاصد والصراط المستقيم. فكانوا من
الأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
الحالة الثانية: أن يعلم علماً صحيحاً، بحواسه هو وفهمه وبما يتفكر في سنن
الله وآياته، وما يتدبر ويتفقه في كتابه ببيان رسوله صلى الله عليه وسلم، ويباشر
قلبه هذا العلم الصحيح النافع لحياة قلبه وغذائه ودوائه وقوته، فيباشر قلبه برد
اليقين، ويذوق حلاوة الإيمان بوعد الله الحق: أنه خُلق في هذه الدار ليعبر منها
إلى الدار الأخرى، وأنه يصل سالماً معانياً، سعيداً: إذا خطى خطواته فيها على هدى
وعلى بصيرة، وربط كل خطوة بالأخرى، موقناً أنه يخطو كل خطوة إلى الدار الأخرى، وأن
كل حركة وسكنة، ولحظة ونفس محجوزة عليه، سيجزى بها وعليها الجزاء الأوفى.
فيثمر له هذا العلم إيثار الأخرى على الأولى، فيستعد لها استعداداتها،
ويسعى لها سعيها. فيكون من السعداء المفلحين.
جعلنا الله وإياكم منهم، ووفقه وهداه.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأجمعين.
وكتبه فقير عفو الله ورحمته محمد حامد الفقي
============
[1] جـ20 العدد 5-6 لعام 1378 صـ217-221.
[2] أخرجه أبو نعيم في الحلية (10/
19)