السبت، 9 يناير 2021

المذنب في عين الحقيقة وعين الشريعة .. عند الصوفية

سُئل علامة الصعيد الشيخ أبو الوفاء محمد درويش -رحمه الله- في "باب الفتاوى":


سمعتُ عالِمًا يلقي درسًا في القاهرة على جماعة من الناس، ومما قرره في درسه: (أننا إذا نظرنا إلى المذنب بعين الحقيقة عذرناه، وإذا نظرنا إليه في عين الشريعة مقتناه) فهل لهذا القول نصيب من الصحة؟
فـأجاب:

(ليس للتفريق بين الشريعة والحقيقة نصيب من الصحة ولا ظِل من الحق، بل هو باطل مجانب للحق بعيد عن الصواب، وإنما يقول به أولئك المفتونون من المتصوفة الذين يفرّقون بين الشريعة والحقيقة، ويرون الحقيقة شيئًا مُغايرًا للإسلام، ويحتجون بما كان من الخَضِر -عليه السلام- مِن خرق السفينة وقتل الغلام، إذ هو مغاير لشريعة موسى -عليه السلام- فاعتبروه حقيقةً مخالفة للشريعة، وعدَّوه عِلمًَا باطنًا مُخالفًا للعلم الظاهر الذي علمه الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

والحق: ما كان عليه موسى -عليه السلام- شريعةً وحقيقةً، وما كان عليه الخضر شريعة وحقيقة، لأن الخضر لم يفعل ما فعله عن أمره إنما كان يوحى من ربه بدليل قوله تعالى: (وعلّمناه من لدنا علمًا) غير أن شريعة الخضر كانت مغايرة لشريعة موسى في تفصيلها وفروعها، موافقةً لها في أصلها، فجميع ما فعله الخضر كان مشروعًا لا إثم فيه، ولا تثريب على فاعله.

والعِلم الباطن لا وجود له إلا في مُخيّلة هؤلاء المفتونين، ولقد سئل الإمام علي -رضي الله عنه- وهو الذي يزعمون الانتماء إلى إرشاده وتعليمه: هل اختصه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشيء من العلم، فأنكر ذلك غاية الإنكار، وتنصَّلَ منه غاية التنصل.

ولولا وجوب حسن الظن بالمسلمين وحمل كلامهم على وجه يحتمل الإيمان لقلنا إن التفريق بين الشريعة والحقيقة كفر؛ لأن الحكم على الشريعة بأنها مغايرة للحقيقة حكم بأنها باطلة، أو الحقيقة هي الحق والحق حقيقة الأمر، وما خالف الحق فهو باطل.

فالحكم على الشريعة بأنها باطل أو مغايرة للحق كفرٌ بواحٌ عندنا من الله فيه برهان، والحق الذي لا شك فيه أن الشريعة والحقيقة والطريقة شيء واحد، وإن اختلفت مفهوماتها، فالشريعة هي الملة التي شرعها الله ليسير عليها الناس في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم، وهي الحقيقة، وما سواها مما شرّعه الناس ولم يأذن به الله باطل، والطريقة هي الصراط المستقيم الذي علَّمَ اللهُ عبادَه أن يسألوه الهداية إليه وهو الدين الحق الذي شرعه في كتابه وفي الصحيح من سنة رسوله (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).

وأيَّةُ حقيقة تلك التي تعذر الكافر والمشرك والمنافق والفاسق والمجرم وكلهم خارج على أمر الله مبارز له بالمعصية.

ولكن المتصوفة لهم شريعة خاصة تُطَوِّع للناس على المعاصي على اختلاف أشكالها، وتوهمهم بسقوط التكاليف عنهم، وتحكم بالإيمان على من حكم الله عليه بالكفر.

وهذا ابن عربي من شيوخهم يحكم بإيمان فرعون، وإيمان قوم نوح ومن على شاكلتهم.

قال في باب السابع والستين بعد المائة من كتاب "الفتوحات المكية" في تفسير قوله تعالى: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) ما يقيه:
فتكون النجاة لمن يأتي بعدك آية، أي علامة إذا قال ما قلته تكون له النجاة كما كانت لك ... إلى أن قال: فصار الموت له شهادة خالصة بريئة لم تتخللها معصيته؛ فقُبِضَ على أفضل عمل وهو التلفظ بالإيمان -كل هذا حتى لا يقنط أحد من رحمة الله). اهـ

وقد صرح في كتابه "فصوص الحِكَم" بإيمان قوم نوح، وكثيرٍ من أضرابهم وبنجاتهم يوم القيامة.

فابن عربي الصوفي يرى فرعون شهيدًا ناجيًا، ويرى قوم نوح وكثيرًا من أضرابهم مؤمنين ناجين، مُكذِّبًا لقول الله تعالى في القرآن الكريم: (كذبت قبلهم قوم نوح المرسلين وأصحاب الرس وثمود (*) وعاد وفرعون وإخوان لوط (*) وأصحاب الأيكة وقوم تُبَّع كلٌّ كذب الرسل فحق وعيد).

من كل ما تقدم يتضح للسائل الكريم أنه لا عذر للعاصي لأنه مخالف لأمر الله ونهيه، ومَن عَذَرَهُ كان مُحادًّا لله ورسوله ومشاقًّا لشريعته.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل


----------------------------------------------------
[مجلة الهدي النبوي / جـ18 / العدد 3 / صـ 32-34]

الأحد، 3 يناير 2021

هذا ما صنعه الشيخ حامد الفقي في الحرب العالمية الثانية

جاء في جريدة "القاهرة" في عددها الصادر بتاريخ 2-1-1959م تحت عنوان: (المحارِب الذي ألقى سلاحه واستراح "الشيخ حامد الفقي") للكاتب الكبير محمد صبيح رحمه الله:

(..ورجلٌ آخر يُقَدَّر لي اليوم أن أودِّعه في هذه اليوميات، اِختار جِوار ربه، وهو أكرمُ جِوار، هذا الراحل العزيز هو الشيخ محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية.

هو المسلم المناضل عن عقيدةٍ آمن بها وتملَّكَتهُ، وسعى إلى خدمتها ما وَسِعَهُ الجهد، ووجد مِن حوله أنصارًا كثيرين، إنه الرجل الذي توفَّر على خدمة عشراتٍ من المؤلفات الإسلامية لمدرسة ابن تيمية والإمام محمد بن عبدالوهاب، وقدم منها لقراء الفكر الإسلامي مكتبة كاملة.

إنه كان أيضا سفير القاهرة إلى المذهب الوهابي في البلاد السعودية [1]، لم تكُفْ رحلاته إليها، ولم يفته موسم حجٍّ إلا لعذرٍ قاهر، ومانع لا قِبَلَ له به.

إن هذا الرجل عاش في معركة لا تهدأ في سبيل ما اعتَقَدَ أنه الصوابُ، اتصلَت بيني وبينه معرفةٌ طيبة وصداقة كريمة منذ عشرين سنة أو تزيد.

حبَّبَتْهُ إلى نفسي وطنيّةٌ في فؤادهِ وكرهٌ للاستعمار لم يكن يعرفه إلا الذين خالطوه عن كثب.

إنه الرجل الذي كان يصحبَني في جوف الليل -مطالع أيام الحرب العالمية الثانية- إلى مطبعته، لكي نقوم معًا بطبع المنشورات ضد الإنجليز والاحتلال البريطاني، وعندما كان النور الكهربائي ينقطع عن المطبعة في حي عابدين، كان يذهب إلى بيته عبر ميدان عابدين، ويحمل مصباحًا بالكيروسين يُخفيه تحت عباءته، ويعود لنُتابِع هذا العمل الخطر المضني، الذي لو وقف عليه "البوليس" السياسي أو عملاء المخابرات لزجّوه في السجن وصادروا مطبعته وهي مصدر رزقه.

لقد اعتقلني الإنجليز بعد ذلك ولم أجد رجلًا أُودعُ لديه مكتبتي ومجموعات كتب الشهر إلا الشيخ حامد الفقي، الذي ضاق بيته بهذه الوديعة، حتى انتهت الحرب، وانتهت أيام الاعتقال .. إني أذكره الآن .. أذكر أنه الرجل الذي حضر عقد قراني، وشهد على العقد، وتلا دعاء الزواج وخطبته.

إنه الرجل الذي قد أُخالفه في بعض آرائه، ولكني احترمتُه دائمًا، وقدَّرتُه دائمًا، وذُّدت عن حريته في إبداء رأيه، وبث نشاطه، إنه رجلٌ محاربٌ لم يكف عن النضال لحظة حتى جاءه بِدَورِهِ الزائرُ الذي لا يملك كلُّ حي إزاءهُ إلا الصمت والسكون الطويل، إنه الموت.

إني لا أشك في أنَّ تلاميذ الشيخ حامد الفقي وأنصارَه في كل مكان سوف يتابعون سُنّتَه، سنة الرجل الذي يجعل من الكتاب المؤلَّف السلاحَ الأول للدفاع عن الرأي.

ويواصلون إمداد المكتبة الإسلامية بالكثير من المؤلفات التي كان الفقيدُ يعني بإصدارها.

رحم الله الشيخَ حامدًا . فهو أيضًا يسبقنا إلى رحاب العلي الأعلى).  


-------------------------------------------------------------------------------------------------------------

[1] لم يُوفَّق الأستاذ محمد صبيح -رحمه الله- في العبارة؛ فلقب الوهابية نعت اختلقه أهل البدع والمشركين على أهل التوحيد والسنة الذين نصروا دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- في دعوته، وهي عادة أهل الباطل في تشويه صورة أهل الحق، كوصف أهل السنة اليوم بـ (الجامية)، و (المندكارية) في الكويت و (الفركوسية) في الجزائر، وهكذا، وما محمد بن عبدالوهاب إلا رجل صالح دعا الناس بالحكمة إلى العودة لكتاب ربهم والاهتداء بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.