الأحد، 26 أغسطس 2018

مدح الولاة ومحبتهم بين الإفراط والتفريط في منهج السلف [رد على مقال المحمدون الأربعة] للشيخ فيصل بن قزار الجاسم



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد؛
فإنّ أصل هذا المقال تغريدات لفضيلة الشيخ د/ فيصل بن قزار الجاسم -حفظه الله- في توِتر، نشرها يوم الجمعة 28 ذي القعدة 1439هـ، فاستأذنتُ فضيلته في جمعها ونشرها، وعلقتُ على بعض المواضع، وخرَّجتُ ما لم يخرجه الشيخ الموفق، وعنونتُ المقال.

والذي دفعني للعناية بالمقال انتشار ظاهرة "الغلو في مدح الولاة" عند طائفة  من المسلمين، باسم الدين ومنهج السلف.
وهذه ردة فعل خاطئة ظهرت مقابل ذم المبتدعة وأهل الأهواء المناهضين للحكام.

فينبغي ضبط المسألة بالشرع لا العاطفة

قال الشيخ -حفظه الله- :

إذا أعلن الحاكمُ بفسقه وظهر جورُه:

فإنّ الشريعة جاءت بالأمر بالصبر عليه، ومناصحته، وعدم نزع اليد من طاعته، والحث على لزوم الجماعة ونبذ الفرقة، ولم تأتِ الشريعةُ بجمع قلوب الناس عليه ودعوتهم إلى محبته، فإنَّ ظهور فسقه يمنع من ميل القلوب إليه فطرةً وشرعاً، والعبدُ مأمورٌ بِبُغض المعصية وأهلها.

وكان السلفُ عند ظهور جور الولاة وفسقهم أوبدعتهم ينهون عن الخروج ويأمرون بالصبر، كما قال الإمام أحمد (اصبروا حتى يستريح برٌّ أو يُستراح من فاجر) [1] ويأمرون بالجماعة وينهون عن الفرقة، هذا هو المشروع.

أما القول بأننا مأمورون بجمع قلوب الناس على الولاة عند إعلان فسقهم وظهور جورهم فهذا غلوٌ .

فمِن أخطاء بعض الدعاة: اشتغالهم بمدح الولاة، بأسمائهم، والتنويه بأفعالهم[2]، ونشر صورهم في وسائل التواصل، وإطلاق الألقاب عليهم.

ويزعمون أنَّ هذا من منهج السلف!

منهج السلف جاء بالسمع والطاعة ولزوم الجماعة، والصبر على جور الولاة،
وأما الإطراء، ومدح أشخاص الولاة، وتبرير أفعالهم، فليس منهجاً للسلف، والشريعةُ لم تدعُ إلى محبةِ الولاة.

كما أنها لم تنهَ عن بُغضهم إذا ظهر منهم ما يوجب البغض الشرعي: كالفسق والفجور، بل أمرت بطاعتهم ولزوم جماعتهم، ونهَت عن إبداء النُّصحِ لهم علانية [3]، درءاً لمفسدة  تفرق الكلمة بما يؤول إلى الخروج وسفك الدماء.

وفرقٌ بين الصبر على فسقهم،وبين جمع القلوب عليهم، فما يُمارسه بعضُ الدعاة اليوم باسم السلفية -وللأسف- من الاشتغال بمدح الولاة وإطرائهم، والتنويه حتى بمشاريعهم الدنيوية، حتى آل الحال ببعضهم إلى أن يدعو الشبابَ إلى التأسي بهم، واتخاذهم قدوات في مقال بعنوان "المحمدون الأربعة
فلا شك أنه من الغلو الذي نُهينا عنه،
ومنهج السلف منه بريء، قال ﷺ:
‏«خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدا من طاعة».[4]

وسمى النبي الحجاج "مبيراً"، أي سفّاحاً،وبيّن العلماء في وقته أنه المقصود بالحديث واشتهر به[5]، ولم يشتغل السلفُ في وقته بمدحه، على عظم اعتنائه بالجهاد وبالقرآن، مع اشتهاره بهذين الأمرين، بل أبغضوه ومقتوه لفسقه وجوره وخوضه في الدماء، لكنهم مع ذلك نَهو عن الخروج عليه ونزع اليد من طاعته.

قال الشيخ أبا بطين رحمه الله:
(ووليّ الأمر إنما يُدعى له، لا يُمدح، لا سيما بما ليس فيه، وهؤلاء الذين يمدحون في الخطب هم الذين أماتوا الدين، فمادحهم مخطئ، فليس في الولاة اليوم من يستحق المدح ولا أن يُثنى عليه وإنما يُدعى لهم بالتوفيق والهداية)
‏[الدرر السنية 41/5]

الواجب على الدعاة وطلبة العلم التزام النصوص الشرعية في التعامل مع الولاة واتباع منهج السلف في ذلك، والاقتداء بكبار علماء العصر: كابن باز والعثيمين والالباني والفوزان والمفتي وغيرهم في تعاملهم مع الولاة ومواقفهم منهم فيما أصابوا فيه وأخطأوا، وموقفهم كذلك من عامة حكام المسلمين.

ذكر ابن حجر أنّ مِن النصيحة للولاة: (ردّ القلوب النافرة إليهم)[6].

والمراد:تذكير القلوب النافرة عن الولاة، والنازعة إلى مفارقة الجماعة بحق الولاة على الرعية، والتنبيه على ما يجب لهم من السمع والطاعة، وتذكيرهم بالنصوص الآمرة بالصبر عند وجود ما يوجب النفور عن الولاة، وليس ردها بمدحهم وإطرائهم.

لا بد من التفريق بين مدح الدولة ونظام حكمها ومنهجها، وبين مدح الحاكم عيناً.

فالأول مطلوب إذا كانت الدولة قائمة بالشرع مقيمة لحدوده مستقيمة على منهج الكتاب والسنة، ولا يلزم منه مدح الحاكم شخصاً، فإنّ الحاكم  في نفسه قد يكون فاسقاً من غير أن يحمله فسقه على تغيير منهج الدولة.

فالعلماء مثلاً يثنون على الدولة الأموية على اعتبار كونها دولة قامت بنشر الدين والسنة وحملت راية الجهاد، لكن لم يلزم من ذلك مدح أعيان حكامها، فقد وُجد منهم الفاسق والجائر، ومثل هذا يقال في كل دولة.

ومن هنا كانت عادة العلماء الثناء على الدولة السُنِّية ونصرتها بدون ذكر أشخاص ولاتها،ولا يمنع العلماء مِن مدح حاكمٍ معين والثناء على أمر فعله من الخير من باب التشجيع له على المزيد، والدعاء له،
ويتأكد إذا كان صلاحه مؤثراً في نظام الدولة، لكن المنكر هو تجاوز هذا الحد حتى يصير دَيدناً يَحمل على الغلو، أو المدح بالباطل، ويزداد الأمر سوءاً إذا صُوّر على أنه منهج السلف!

عندما وقعت فتنة المحنة بخلق القرآن وابتُلي العلماء، وصبر الإمام أحمد على شدة الفتنة، ثم كشفها الله على يد المتوكل، لم يشتغل الإمام أحمد بالثناء على المتوكل وإطرائه، بل دعا له بالخير،
وقد حاول المتوكل أن يُحضر الإمام إلى مجلسه فامتنع؛ والقصة معروفة.

تأمل هذه القصة لتعرف منهج السلف..


———————————
[1] الآداب الشرعية (1/221).
[2] فهم بعضُ الفضلاء ان الشيخ يمنع -في هذا الشطر- مدح افعال الحكام على الإطلاق، وهذا خطأ، بل يريد -حفظه الله- الغلو في الإطراء، والانشغال في ذلك، وسيأتي توضيح الشيخ في المقال.
[3] في الحديث (من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ، ولكن يأخذ بيده فيخلوا به ، فإن قبل منه فذاك ، وإلا كان قد أدى الذي عليه) أخرجه أحمد(15369) وابن أبي عاصم في السنة (1098) وغيرهم، صححه الحاكم والألباني
[4] رواه مسلم (1855).
[5] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (في ثقيف كذابٌ، ومبيرٌ) رواه مسلم والترمذي عن ابن عمر، والبيهقي في الدلائل والطبراني في الأوسط عن أسماء بنت أبي بكر، وقد أوّلَت أسماء (المبير) بالحجاج بن يوسف، قال النووي: (اتفق العلماء على ان المراد بالكذاب المختار بن ابي عبيد وبالمبير الحجاج بن يوسف) [شرح النووي على مسلم 16/ 100].

[6] فتح الباري 1/ 138.